سقوط بيروت: صورة قاسم سليماني لم تسقط
وردّد شفيق وبعض من معه هتاف "بيروت حرّة حرّة.. إيران اطلعي برّا". فتعرّض للضرب المبرح، إذ أحاط به أكثر من عشرة شبان وانهالوا عليه. وعلى وقع اللكمات تمّ سحله إلى خارج المكان. فلم يكن المشهد ودياً أبداً، عكس ما يشير إليه اسم الجناح الذي رفع صور قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني.
قبل هذا المشهد بساعات، تم قطع الكهرباء عن المعرض خلال إقامة حفل موسيقي تردّدت فيه بعض الأغاني الداعمة لبيروت والثورة. وعلى ما يقول عدد من الحاضرين، استفزّت أغنية "يا بيروت.. يا ستّ الدنيا يا بيروت" بعض الأجنحة والعناصر المشاركين في المعرض. وبناءً على احتجاج بعض دور النشر، التي كانت تبثّ أناشيد حزب الله، توقّف الحفل. رمزية أغنية بيروت، على الرغم من كمّ الملاحظات التي يمكن تسجيلها عليها في المعنى والتطبيع مع الأزمات وأسطورة طائرة الفينيق والعنفوان الوطني الفاقع، توضح المعركة بتفاصيلها. هي بين بيروت ستّ الدنيا وأناشيد حزب الله وإيران. حرب لا تكافؤ فيها ولا عدالة طبعاً.
انتحاري.. استشهادي
شفيق ب. شاب انتحاري. برجليه ذهب إلى المعرض، الذي وُصف بـ"الإيراني"، ووصل إلى أمام صورة سليماني وحاول نزعها وردّد شعار بيروت حرّة. انتحاري أو استشهادي؟ لا بأس في هذا الجدل المتجدّد كلّ حين، خصوصاً أنه تمّت خلال السنوات الماضية إضافة أطر جديدة على هذه الحالات المماثلة مثل "انغماسي". بعيداً عن كل هذا، كان شفيق مسالماً. لم يتعد على أحد ولم يحاول فرض شيء على أحد. حاول فقط إزالة صورة وردّد شعاراً، وقوبل كما هو متوقّع بالضرب المبرح. إذ أنّ لغة الميليشيات تحتّم ذلك، وقد تم تنظيم هذه الميليشيات لتتّخذ أسماء تنظيمية وهيكليات وإدارات وتصبح جزءاً من المجتمعات المسيطر عليها، أو لنقل المحتلّة.
الاحتلال الإيراني
بالنسبة لكثيرين، يأتي مشهد معرض بيروت للكتاب، الإيراني هذا العام، للدالة على احتلال طهران للبنان. طوال سنوات ماضية من سيطرة حزب الله على البلد ومؤسساته وأمنه وقراراته وسياساته فاضحة. لكن انعقاد معرض الكتاب البيروتي بهذا الشكل جاء ليؤجّج المشهد، كشبه اعتراف بأنّ البلد فعلياً سقط. سياسياً وأمنياً سبق أن سقط. اقتصادياً ومالياً سبق أن سقط. اجتماعياً وفي الحياة اليومية سبق أن سقط. واليوم تكريس للسقوط الثقافي المدوي، خصوصاً في ظل انسحاب الجبهة المقابلة بشكل كامل، وعلى المستويات كافة من السياسة إلى دور النشر، مروراً بالطباعة والصحف والإعلام ومؤسسات الرعاية الاجتماعية والتقديمات والمساعدات وسائر القطاعات.
حركة مقاومة!
يجد اللبنانيون أنفسهم اليوم فعلياً تحت الاحتلال الإيراني. الكثيرون منّا رفعوا الرايات البيضاء. فانهزموا وانزووا في منازلهم وحجراتهم الضيّقة. أو غادروا جواً إلى مكان يُظنّ أنه آمن. أو بحراً إلى مدن يمكن فيها المحافظة على بعض من ماء الوجه. فالكرامة التي يتمّ توزيعها في بيروت بالأطنان، مغايرة. أما العزّة فلا تقرب إلى شيء من مفهومها العام المتعارف عليه أممياً على المستوى السوسيولوجي والسيكولوجي. لكن ثمة من يصرّ على البقاء والمواجهة. إن كان الاحتلال بات فعلاً مكرساً، فهذا يعني أنّ ثمة حركة مقاومة ستنشأ. في السياسة والاقتصاد والثقافة، ثمة من قد يلجأ إلى المواجهة. وقرار شفيق ب. اليوم في مواجهة صورة سليماني، بانتحاريته وعبثيته ونتيجته المحتومة، تعبير عن هذه الحالة.
الشاب شفيق ب. امتلك من الجرأة حدّ الانتحار. فبين الجرأة والانتحار خيط رفيع جداً، ينافس برفعه الحدّ بين التطرف يميناً ويساراً. لكنه أقدم على فعل مقاوم للاحتلال الإيراني. كتب قبل ساعات على حسابه على فيسبوك "أنا صراحة، لا بدي حرر فلسطين ولا بدي حارب حدا ولا بدي إحمي مقام ولا بدي إمحي أمريكا ولا بدي يكون أخواتي بالوطن مرتزقة عند الإيراني يحاربوا بسوريا والعراق واليمن كرمال النظام الإيراني المجرم ولا بدي حلّل حرب روسيا وشيطن أوكرانيا.. أنا بدي عيش ببلد بلا إحتلال وفي استقرار كامل وشغل وكهرباء والخ". وأكمل منشوره بالتوجّه إلى أمين عام حزب الله مشيراً إلى تعب اللبنانيين من "إرهابه وقرفه". اليأس والإحباط يولّدان انتحاراً. الأمل و"المقاومة" يولّدانه أيضاً، أو يولّدان "استشهاداً". لكن النتيجة واحدة، إذ يبقى الموت خلاصة مشتركة.