رهاب الكوفية وخزان العنف.. في مأتم جامع للدولة اللبنانية
جهل وسوء فهم تاريخي
لكن ما حدث في الجميزة يعيد إلى الذاكرة البعد السياسي القديم للكوفية. كأنها استعادت أصلها الدفين والمتوارث بين شبان لم يعيشوا الحرب الأهلية، بل وصلتهم أصداؤها الغائمة المتوارثة في أحيائهم ومدارسهم. كأنها أعادت نسج وإنتاج أدبيات الحرب والخوف من "الغريب" وأزيائه، حينما انقسمت البلاد بين جبهة لبنانية يمينية، وجبهة يسارية - فلسطينية. وهذا على الرغم من العفو العام الذي صدر بعيد الحرب الأهلية اللبنانية عام 1990. وعلى الرغم من مراجعة القوات اللبنانية لكثرة من أفعالها في الحرب، والاعتذار الفلسطيني الشهير.
وكانت الكوفية في سبعينيات وثمانينات القرن الماضي رمزاً للصراع بين حاملي لواء الثورة الفلسطينية من يساريين مسلمين ومسيحيين، وبين حركة أمل المنتفضة على السطوة الفلسطينية واليسارية المسلحة. وكانت أيضاً مصدر عداء الأحزاب المسيحية للفلسطينيين واليساريين.
وكانت الكوفية "فولار تمرد" الشاب اليساري مازن أبو زيد، سبباً لاعتداء مناصري حركة أمل وحزب الله عليه في يوميات انتفاضة 17 تشرين في النبطية. والكوفية نفسها خرجت من بطون التاريخ الذي ينبو على النسيان لدى مناصري القوات اللبنانية، فقرأوا فيها الرمز المستفز القديم. كأنهم -وهم لا تتجاوز أعمارهم العشرين أو الثلاثين- يستعيدون أفعال أشخاص من أعمار آبائهم في عشايا حروبنا الأهلية الميمونة.
كوفية الموضة والفلاحة
وبمعزل عن حادثة الجميزة، فأن تحول الكوفية موضة أفقدها دلالتها القديمة، لا بل قيمتها السياسية الفئوية في الشوارع اللبنانية، وخصوصاً أثناء انتفاضة 17 تشرين. إذ تعددت استعمالاتها بين شبان يعتبرونها ظاهرة هيبّية للدلالة على فوضويتهم أو رفضهم منطق الأزياء والشارات الكلاسيكية.
وهذا ما جعلها في أحيان كثيرة سلعة سياسية عامة أو مجردة من سياقاتها الصراعية السابقة، لتباع مع الملابس الخارجة عن المألوف لمن يرغب في لفت الأنظار إلى المظهر الخارجي. لكن هذا لم يطو رهاب الكوفية القديم، ليجعلها رمزاً أو زياً مجرداً من العصبيات الأهلية والجهازية، لكسر السائد الشكلي في الزي والقيم.
غرباء في مأتم الدولة
وليس بعيدأ من التسليع الشكلي للكوفية، كذلك من تحولها إلى موضة، أصبحت لها وظيفة محددة في 17 تشرين: كل من كان يريد المجاهرة بتمرده أخذ يرتديها، ويبعد بها خطر تنشقه الغاز المسيل للدموع في المظاهرات، أو لتدارك برد في شتاء قارس، أو ربما لإضفاء بعض من الجدية السياسية على دعوته للتغيير. لكن بعض شبان القوات في الجميزة قرأ فيها مواضي الحقد والخصومة السياسية، بدل أن يعتبرها زياً شبه فولكلوري للتمرد.
وكانت للكوفية وظيفة قروية فلاحية. ففلاحو مناطق الأطراف كانوا وما زالوا يرتدونها لحماية رؤوسهم من أشعة الشمس في حقولهم، وخصوصاً في البقاع الشمالي وعكار ومزارعي التبغ في الجنوب.
لكن هذا كله غاب عن محتقني الجميزة بالغضب القديم يوم أمس. وأسبغوا عليها تلك الدلالة السياسية العصبوية الآفلة. فمن أين استعاد أولئك القواتيون ذلك الخزان الآفل للعنف، وراحوا يطعنون بالسكاكين وجوه وأجسام معتمري الكوفيات الذين كانوا يهتفون ذلك الهتاف الذي يتغذى من خزان العنف القديم نفسه: "سمير جعجع صهيوني".
وفي الحالات كلها، فإن هذا الدوران المستغرق في الماضي، أظهر قبح الحاضر. قبح أكد أن كثيرين لا يزالون سجناء ماضيهم، وأن لبنان ثورة 17 تشرين والعيش المشترك، ليس إلا شعاراً آنياً أو موقتاً يكتب على حيطان مواقع التواصل الاجتماعي. ولا نزال جميعنا غرباء في عزاء كبير إسمه الدولة اللبنانية الجامعة.