هل ماتت زوجتي في الانفجار؟
ليس الرابع من آب 2020 باليوم العادي في ذاكرتنا. إنه يوم مقتلنا بدم بارد على يد سلطتنا الساكتة عن خنقنا اليومي. في ذاك التاريخ المشؤوم سارت عقارب حياتنا نحو الحتف. في تمام الساعة السادسة والدقائق العشر من ذاك النهار، وبينما كنت أنتظر زوجتي في منزل العائلة، اهتز كل شيء من حولنا: هل هي غارة إسرائيلية على الضاحية، أم اغتيال سياسي في بلد تعوّد الإغتيالات والموت؟
هرعنا أنا ووالدي وابن أختي إلى محاولة اكتشاف مصدر الموت ومكانه، من خلال سماعات هواتفنا النقالة، إلا أن هاتفي أسمعني ما لم يكن في حسباني: "الإنفجار في محيط الجميزة"، قالها صديقي الذي كان هناك.
زوجتي في الأرض صفر
محيط الجميزة يعني بشكل تلقائي أن زوجتي ميادة حتماً في دائرة خطر الإصابة أوالفقدان. هل ماتت ميادة؟ هل كان الانفجار قريباً من كلية العلوم السياسية في جامعة القديس يوسف، حيث تعمل؟ لا أدري. كل ما أيقنته أنني والكثيرين لامسنا شفير الوجع، الخسارة، والضياع.
تكرر الاتصال مراراً بهاتف زوجتي التي لم تجب. بالجامعة اليسوعية التي لم تجب أيضاً. وبمستشفى أوتيل ديو، التي خالفت قاعدة صمت الهواتف، وأجابت بما هو مقلق أكثر من اللاجواب: "عذراً لدينا مئات الإصابات لا نعرف إن كانت زوجتك في عدادهم".
درب الخوف
ركضت في الشارع، ولم أر سوى السواد، استعجلت سيارة الأجرة قائلاً "مئة، مئتان لا يهم" المهم أن أصل إلى أوتيل ديو. حبست دموعي وانهياراتي، مردداً في داخلي جملة واحدة: "لا، لم تمت زوجتي فهي تحب الحياة وتنبض بها". وصلت إلى موقف المستشفى بعد عذابات لا تحصى. المدينة عبارة عن أحجار وزجاج متناثر على الإسفلت وأصوات سيارات إسعاف يرافقها بكاء ووجع. بكائي هناك كان عابراً مقارنة ببكاء الثكالى وذوي الفقدان. أتلفّت حولي ولا أجد غير الموت. هل ماتت زوجتي؟ لا، ربما ماتت المدينة كلها. فالموت والدماء كانا وحدها المشهد.
بحثت كطفل ضائع بين الجرحى وربما الجثث، ولكن الحزن والخوف يفقداني حاسة النظر. فجأة وفي هول ركام المجزرة، يصدح صوت يُسكّن وجعي: إنها ميادة واقفة مضرجة بدمائها تقول: "أنا هنا". ظننت أن إصابتها أقل خطورة من إصابات هذا الوطن المقتول، وقررت الانسحاب من أوتيل ديو، والانتقال بها إلى مستشفيات الضواحي، ظناً مني أن الموت محصور في مستشفيات الأشرفية ومحيطها. لكن العكس كان الصحيح.
وبدأت الرحلة..
من أوتيل ديو، انتقلنا إلى مستشفى جبل لبنان، حيث رائحة الموت وصلت إلى موقف زوارها، المكان مليء بالموتى والجرحى، ولا إمكانية لوجيستية لاستقبال مصابين جدد.
من "جبل لبنان"، كانت الوجهة جارتها "مستشفى الحياة"، لا شيء على مسامعي سوى عبارة "انتظروا قليلاً"، ولا شيء على مرمى نظري إلا الموت والدماء السائلة في المكان.
حاول جاري، رجل الأمن، مساعدتي بإدخلها إلى غرفة الجراحة ولكن عبثاً. فالموت كان أقوى من الجراح، ونحن لا نملك سوى الصمود والدماء النازفة على إسفلت مدينتنا تحت أعين سلطتنا السافلة.
يا محمد…
هرع إلى "مستشفى الحياة"، التي كانت لا توحي بأي مظهر للحياة، كل من والدي المصاب بأمراض رئوية وابن أختي، وأصدقاء صدوقين كانوا سبب عدم الموت.
كان محمد يعقوب هو المنقذ المرحلي، وضعنا وزوجتي في سيارته، وانتقل بنا إلى منطقة سن الفيل حيث "مستشفى الحايك". هناك أيضاً لم يكن حولي سوى الموتى وبحور الدماء.
في الحايك، ضُمدت الجراح على الزجاج، عدنا إلى المنزل، وبدأت رحلتنا المستمرة حتى اليوم. كررنا العمليات الجراحية مرة، اثنتين، ثلاث وأربع، متنقلين من الحايك إلى الجامعة الأميركية في بيروت ثم مستشفى كليمنصو. عملية تلو أخرى، والإرادة القوية تجابه أعتى آلات غياب الدولة والصراع مع الشركات الضامنة. صمدنا، وما زلنا نصمد حتى اليوم. انتهت العمليات الجراحية وما زالت ميادة تعاني من صعوبة حركية في يدها اليمنى. كل هذا لا يهم، المهم أنها لا تزال على قيد الحياة. ولكننا جميعنا أصبحنا في مصاف الأموات.
قدرنا اللا قضاء
اليوم تمر الذكرى السنوية الأولى على مقتلتنا الوطنية، ونحن لم نلجأ حتى إلى القضاء، ولم نقدم أي شكوى ضد القتلة، لأن عدالتنا لم ولن تكون إلا بتعليق مشانق كل هذه السلطة "من آذارها إلى آذارها".
لم ندّعِ ليس لأن" القضاء للضعفاء"، بل لأن قدرنا العيش بين قتلة وقحين، ومعارضة فاقدة لأي رؤية سياسية، وقضاء مربّط اليدين أمام حصانات وقحة وسخيفة. لم ندِّع لأننا متنا وما زلنا نعاني من عصّابات قبرنا الوطني.. بانتظار ذكرى سنوية أُخرى.