عذابات النساء و"دفتر شروط" المحاكم الجعفرية: الإصلاح قنبلة صوتية
لم يهدأ نحيب لينا جابر على قبر ابنتها، التي حُرمت منها في الحياة والممات. صورتها جاثية على ركبتيها أمام السياج الفاصل بينها وبين قبر مايا، صعبٌ محوها من ذاكرة من شاهد مقطع الفيديو. قصة لينا بدلاً من أن تكون شرارة الثورة على فتاوى المحكمة الجعفرية، أضحت فرصة للانقضاض عليها، ومحاولة تشويه سمعتها. أبرز تلك المحاولات جاءت عن طريق الشيخ عباس حطيط، الذي دافع عن المحكمة الجعفرية بشراسة، واتّهم لينا بخيانة الشراكة الزوجية، ووصف بكاءها بـ"العواطف المهترئة والعفنة". مأساة لينا جابر، وكثيرات غيرها، كرّستها فتاوى المحكمة الجعفرية التي اعتادت اضطهاد نساء الطائفة وحرمانهن من أطفالهن. فتتوالى قصص الاضطهاد هذه، وتكاد لا تنتهي، وقصة زينب واحدة منها.
قصة زينب
تحمل زينب (اسم مستعار)، منذ أربع سنوات، عبء قضيتي طلاقها وحضانة أولادها. كقصص العديد من النساء، ضغط عليها زوجها بمختلف الطرق لدفعها إلى طلب الطلاق والتنازل عن مستحقاتها ومؤخرها. وبعد سنوات تفاجأت المرأة بوصول ورقة الطلاق إلى بيتها عبر شيخ. فتوجّهت إلى المحكمة الجعفرية لتثبيت الطلاق، وعلقت في دهاليزها وسيرة الابتزازات المتكررة في الحالات نفسها: النفقة والمستحقات مقابل الحضانة. ابتزها زوجها بعد أن رفعت دعوى لحضانة أولادها، طالباً منها التنازل عن حقوقها المالية كافة، مقابل تثبيت الطلاق وتثبيت الحضانة.
تسرد زينب تفاصيل حياة بوليسية عاشتها وابنتيها على مدى سنة، خوفاً من تهديد الزوج بخطفهما أو أخذهما عنوةً. لكن هذا الخطر تبدّد وزالت ملاحقاته بعد زواجه وانشغاله بعائلته الأخرى. طيلة هذه السنوات والقضية عالقة في المحكمة. يتمنّع عن حضور جلساتها وبوادر الحل معدومة. قضية زينب لا أفق لها. أما المحكمة الجعفرية، فكل ما قامت به مجرّد إصلاحات وهمية، التفّت من خلالها على صرخات النساء وطوّقتها. وآخر هذه الإصلاحات الصورية "دفتر شروط الزواج" الجديد.
حوار الطرف الواحد
تحت عنوان "عدم وضوح المفاهيم الدينية والتشريعات الناظمة للحياة الزوجية"، عمم رئيس المحاكم الجعفرية، القاضي محمد كنعان، دفتر شروط الزواج الجديد على قضاة المحاكم الجعفرية في 8 شباط الماضي. جاءت خطوة كنعان في إطار إصلاحات جديدة، كان قد وعد بها في أيلول الماضي، خلال مؤتمر "تجمّع تع نحكي". في ذلك المؤتمر رفض كنعان الاستماع إلى مداخلات الأمهات ومعاناتهنّ من إجحاف قوانين المحكمة الجعفرية. ما حصل تأكيد على أنّ "تع نحكي" حوار من طرف واحد، يحكي ويحلّل ويبرّر من دون ردّ. وما على الطرف الآخر سوى الإصغاء والمصادقة على أنّ تغييراً حصل، أو أنّ واقعاً قد تغيّر. وما يمكن أن تراه المحكمة الجعفرية على أنه "نقلة نوعية" على مستوى التشريعات، ليس سوى قنبلة صوتية ألقتها لجذب انتباه المجتمع المدني من جهة، ومحاولة امتصاص غضب النساء الذي يضجّ ويتكاثر في أورقة المحكمة.
بندان فارغان
يقرّ دفتر الشروط، في بنده الأول، بحق المرأة في أن تكون وكيلة نفسها في الطلاق بحالات محددة، كالعنف الجسدي والغياب عنها عامين وسجن الزوج وغيرها. أما البند الثاني المتعلّق بسن الحضانة بعد الطلاق، فلم يحدّده النص. اكتفى بالإشارة إلى سن البلوغ وسن السبع سنوات، أي حسب ما يتم الاتفاق عليه من قبل الزوجين. يعني أنّ الأمور على حالها في ما يخص هذه المعضلة - هذا الحق. وغياب طابع الإلزامية أفقد الدفتر قيمته على المستوى التطبيقي. إذ أنّ القاضي في المحكمة الجعفرية يلزم الزوجين الاطلاع على دفتر الشروط من دون إلزامهما توقيعه. الأمر الذي يضع المرأة في حالات عديدة أمام حرج اجتماعي خاضعة فيه لبعض المعايير والقيم السائدة، تمنعها من التوقيع على هذه الشروط. وما يجعل دفتر الشروط بلا قيمة فعلية ولو معنوية، تأكيد الشرع على حق النساء في إضافة بنود محدّدة في عقد الزواج. وفي هذا الصدد يؤكد المفتي الجعفري، الشيخ أحمد طالب، لـ"المدن" أنه "بإمكان المرأة أن تشترط في عقد الزواج الشرعي ما تريده حول سن الحضانة وطلب الطلاق، وأيضاً بنود أخرى تتعلق بالحقوق الاقتصادية وغيرها، من دون الرجوع إلى دفتر الشروط أو حتى إقراره".
إبرة مورفين
ويشدّد طالب على أن هذا الدفتر هو "محاولة إلهاء للمطالبين والمطالبات برفع سن الحضانة وهو لا يغني عن تعديل لقوانين المحكمة". فلا يقدّم الدفتر حلولاً ملزمة للنزاعات القائمة على رفع سن الحضانة. ويبقى أنّ الحل الوحيد لهذه المشكلة يكمن في إصدار قانون تشريعي خاص بالأحوال الشخصية، يصدر عن مجلس النواب، ويضفي صفة الإلزامية ويحمي حق الحضانة. وهو ما يؤكده طالب أيضاً، الذي يشير إلى أنّ "ذكورية بعض القضاة في المحكمة الجعفرية تحول دون تعديل سن الحضانة". وفي الإطار نفسه، تؤكد رئيسة حملة "رفع سن الحضانة لدى المحكمة الجعفرية"، زينة إبراهيم، لـ"المدن" على كون "دفتر الشروط إبرة مورفين قدمتها المحكمة للنساء اللواتي يطالبن برفع سن الحضانة". واعتبرت إبراهيم أنّ هذا النص "لا يرتقي إلى مستوى خطوة نحو الأمام في مسار إصلاحات المحكمة الجعفرية" على اعتبار أنّه "يحمّل المسؤولية لبعض النساء، اللواتي لا يملكن الوعي الكافي أثناء إجراء عقد الزواج، للتوقيع على هذه الشروط.. ما يهدر حقوقهن في حال الطلاق".