فوزي يمّين وانتفاضة زغرتا: المعركة بين الأهل حرية
بعد سبات طويل
في 16 كانون الأول، وقف فوزي يمين وسط حشد صغير من الثوار على التلّ في قلب زغرتا. أمسك مكبّر صوت وأطلق هتافات كتبها خصيصاً لما سماه ثوار لبنان "يوم الغضب": "نامي يا زغرتا نامي، تَ غطّيكي بـ حرامي، تبقي قومي عَ بُكرا، بيكون سَرَّبْ الحرامي". و"قومي يا زغرتا قومي، كل إيامِك محرومي، ما فيكي غير سيارات، صرتي موقف عمومي".
لحظات بعد تركه الميكرفون وتفرّق الحشد الصغير، نامَ قلب فوزي يمّين كنوم أهل بلدته. نُقل إلى مستشفى سيّدة زغرتا وأُنقذ بأعجوبة من موت، قيل إنه محتّم. وقام من سباته، على عكس بلدته. وإذا كانت قيامة قلب فوزي أعجوبة، فقيام أهالي بلدته من سباتهم الطويل يتطلّب أعجوبة أيضاً.
فضّل بعض الزغرتاويّين، لاعتبارات كثيرة، التظاهر في مناطق أخرى كطرابلس وجلّ الديب وبيروت. لكن فوزي واظب على الانتفاض في بلدته مع مجموعة سُمّيت "زغرتا الزاوية تنتفض". وفي حديثه إلى "المدن" يعتبر أنّ "الإنسان يخوض معركته الأساسية بين أهله". اعتقاده هذا منعه من السفر أكثر من مرّة، ودفعه لرفض فرص أتيحت له خارج لبنان: "إذا كان الإنسان يطمح إلى العيش الكريم والحرية، فلا بدّ من طلبهما بين أهله"، ويتابع ضاحكًا: "أيعقل مثلا أن أهتف، أنا، للحريّة في باريس؟!". كأنه في هذا يستوحي عنوان كتاب ابن بلدته الروائي جبور الدويهي: "الموت بين الأهل نعاس"، يخرج عليه ويناقضه أيضاً.
نجم التّل
يقول فوزي يمّين إنّه يحبّ ناس بلدته. منذ سنوات يعتبرهم طيّبين وخياراتهم قليلة، ربما. وأهالي زغرتا يحبّونه. ففي مطلع شبابه كان نجماً زغرتاوياً حقيقياً في فريق نادي "السلام - زغرتا" لرياضة كرة القدم. الأهالي يركضون إليه في طرق بلدته، يستوقفونه ويسلّمون عليه. وهو على خلاف ما يخال: شخص اجتماعيّ، يحبّ التّل (ساحة زغرتا) ومرتاديه. التل بيته: "منزل أهلي هناك، وكان لوالدي مقهى في التل، وكنت أتردّد عليه، فاعتدت أجواءه وحكاياته، والناس الذين يحكون لغة الحياة الأليفة".
عندما أطلق هتافاته تلك أطلقها في التل، وكانت المرّة الأولى التي يهتف فيها: "هناك أشخاص ثوريون حقيقيون، عرفهم الشارع وعرفوه. أمّا أنا فالشارع جديد عليّ". خرج إلى الشارع من الأفكار. وعندما نظّم مع المجموعة لقاءات حوارية في التل، كانت اللقاءات امتداداً لإيقاع حياته قبل اندلاع الانتفاضة.
في زغرتا وإهدن قرينة زغرتا الصيفية، أقام يمين نشاطات ولقاءات ثقافية مع شبّان وصبايا متحمّسين للأمسيات الشعرية، لمعارض الكتب، وتحفيز القراءة وإعادة إحياء مسرح زغرتا وغيرها من الأمور. يقول إنه أقرب إلى الأفكار وعوالمها، مؤمن بقدرتها على تغيير الكثير: "انتبهت إلى أنّ أحد أسباب عدم تحرّر المجتمع هو عدم درايته ببداهات، مثل أنّ التلميذ أهم من المدرسة، والعامل أهم من المعمل، والإنسان يولد ويموت حرًّا". يؤمن يمّين أنّ تحوّل المجتمع من تحوّل أفراده، والتراكم كالأنهار تصبّ في البحر: "الثورة كالبحر، هائلة، تصبّ فيها تراكمات فردية".
جسر بين جيلين
على مرّ السنوات، كان فوزي يمّين يراكم. كيف تحمّل مراهقين يكتشفون الحياة للمرّة الأولى، ويرون أن مشاكلهم الصغيرة كبيرة جدًا؟ نسأله، فيجيب: "هم أيضا تحمّلوني كما يتحمّل الأولاد أهلهم. كنت أحتاج حماستهم لأعمال كثيرة، حاجتي للحيوية والبلاهة والسذاجة أحياناً".
في الأيام التي تسبق تنظيم المعرض يذكر مشهد صبيّة جالسة في حضن حبيبها: "هذا المشهد البسيط كسر رتابة الجو الثقافية المعتادة التي لا تشبهني. أنا أحب التخفف من الثقافة التي لم أعتبرها يوماً مهنة".
هو وجه من وجوه الثورة، ومن وجوه زغرتا أيضاً. يشير إلى أنّ لا أصدقاء له في جيله. أصدقاؤه يكبرونه أو يصغرونه، وهم: "إما تلاميذي أو من روّاد المقاهي". يلتقي الفئتين في المقاهي. الكبار في مقاهي التلّ والأصغر في مقاهي منطقة العبي. كأنّ قدره أن يكون جسراً بين جيلين، يقول أحد أصدقائه.
راكم تجاربه في بلدته، مع مجموعة شاركها التجارب طوال سنين: "نشأت في بيت خلا من أي كتاب. بيت فقير نسبيا في حارة فقيرة. طبع التمرد مسيرة حياتي التي لا يمكن أنّ تكون مثالاً لسواي". لذا جاء حضوره في الثورة طبيعياً أو بديهياً. ولو غاب عنها لكان لغيابه وقع كبير ينتبه له الجميع متسائلين: أين فوزي؟!
أملٌ بعد يأس مديد
يعتبر أنّه متمرّد أكثر منه ثائراً. للتمييز بين التمرّد والثورة، يتردّد ثوانٍ ويجيب: "قد يكون التمرّد على كل شيء، على الواقع، على الوجود عامةً، وليس آنيّاً. أنا منذ مراهقتي متمردٌ على الواقع، على الأهل والدين والمدرسة، على السلطات التي تعلّم ما الصح وما الخطأ". أمّا عن الثورة فلم ينضمّ إليها فور اندلاعها: "دفعني اليأس إليها أكثر من الأمل. لقد غمر اليأس لبنان كله من أنّ أحواله يمكن أن تتغيّر يوما: تراكمات الحرب وما بعدها. الطائف وما بعد الطائف. انتفاضة 2005 وما بعدها". عام 2005 شارك يمّين في التظاهرة الأولى، لكنه أصيب بالخيبة في الليلة نفسها: "عدت إلى البيت خائبًا من مشهد الأحزاب تستعرض شعاراتها وأعلامها".
لم ينتمِ يوماً إلى حزب أو لجهة سياسية. وليس شيوعيّا كما يخاله البعض. ويعتبر أنّ "الانتفاضة ماتت في اليوم الذي ولدت فيه. كان ذلك اليوم يشبه يوم القيامة".
يعتقد فوزي أنّ اليأس الذي تربّى في داخله، كان ربما نتيجة الانتفاضات التي تولد وتجهض في لبنان. إضافة إلى معرفته أشخاصاً من أعمار متفاوتة، درّس أجيالا كثيرة، في المدرسة سابقاً وفي الجامعة اليوم. خبر في تجاربه صعوبة التغيير، بل استحالته. لكنه في 17 تشرين أعاد النظر في يأسه، واستعاد في الثورة شيئاً ما فقده: "قد يكون الأمل"، قال.
وعن العارض الصحي الذي باغته في ساحة التلّ وسط تجمّع من ثوار المنطقة، يقول فوزي إنّه لا يزال يتعافى، والحياة تحبّه ربما أكثر مما يحبها: "يمكن أن تكون هذه فرصتي لأثور. قد تكون الثورة أنقذت حياتي. فأنا لم أفكّر مليّا في هذا الأمر بعد".
لطالما ردّد أنّ الثورة والمقاومة تلابسان حياة المرء اليوميّة. وإذا كانت الثورة قد كتبت له عمرًا جديدا، فماذا ينوي أن يصنع بهذا العمر؟: "لو قيل لي أنني سوف أموت غدا، لن أغيّر عاداتي. العادة عندي سعادة".