مستشفى الفنار للأمراض العقلية: مشهد من القرون الوسطى
مكان كابوسي
ذاك المبنى الضخم على يمين طريق عام النبطية، الذي يطلّ عليك بعد الانتهاء من طلعة المصيلح، يبدو من بعيد مكاناً جميلاً للاستجمام، وأخذ قسط من الراحة. لونه الأحمر القرمزي والخطوط البيضاء الفاصلة في زواياه، وأشجّار الصنوبر المنتشرة حوله، على تلك الهضبة المطلة على البحر، يجعلك تعتقد أنك في حضرة فندق من خمسة نجوم. لكن المعاينة القريبة للمكان تجعلك أمام مبنىً كابوسي كأنه آت من القرون الوسطى. مكان لتعذيب الأسرى وليس لشفاء المرضى، كما يدلّ اسمه.
في طريقنا لاستكشاف هذا المبنى، المسمّى زوراً "مستشفى"، نخطئ مرتين في مفترق الطريق المؤدي إليه، إذ لا لافتة تدلّك إليه. نختبر طريقاً ثالثاً، علّنا نصل إلى مبتغانا. حفر كثيرة، وإسفلت قديم، وجدران دعم منهارة على جانب الطريق. وبعد معاناة، نصل إلى الساحة المشرفة على المبنى. في أرجائه ثلاثة مبان قرميدية، عرفنا لاحقاً أنّ مالكة المستشفى تتّخذ منها مسكناً مؤقتاً ومكاتب للعمل.
ندخل إلى المستشفى للحصول على إذن أي موظف لمعاينة المكان، فتصادفنا سيدة، تبيّن أنّ إحدى العائلات البقاعية وكّلتها بخدمة ومتابعة حال مريضة لهم، نظراً لصعوبة وصولهم بشكل متكرّر إلى المنطقة. تأخذنا بجولة لمطالعة حالات المرضى، محذّرة إيانا الإفصاح عن هويتنا الصحافية للموظفين، في حال صادفنا أحدهم: "أنتم هنا كجمعية خيرية تريدون المساعدة". لكن ما هو صادم فعلاً، أننا لم نصادف موظفاً أو ممرضاً أو طبيباً واحداً في انتقالنا بين الطبقات الثلاث للمبنى. كما لو أن المسؤولين عن المستشفى تركوها لتتدبّر نفسها بنفسها.
اللامعقول
عتمة وظلمة وبرد قارس، هي أول ما يطالعنا في هذا المكان. غرف شاسعة خصصت للمرضى، تعادل نصف حجم المبنى الضخم. نسترق نظرة من خلف القضبان الصدئة. الضوء الخفيف المتسرّب من بعض النوافذ يكشف بعض تفاصيل طبيعة الغرفة المظلمة: مرضى يروحون ويجيئون بثيابهم الرثّة، وجدران وبلاط كستها الأوساخ والقذارة وأسرّة مهترئة. ننادي لعلّ من مجيب، فيتهافت المرضى إلى الباب. يشدّون أياديهم على القضبان ويبدأون بالصراخ: "لا يُطعموننا إلا الأرز. صباحاً ومساءً فقط الأرز"، "لم نستحم منذ أكثر من شهر، يصرخ أحد المرضى". وماذا عن التدفئة؟ "نحن نموت من البرد"، قال أحدهم. وكم عددكم، نسأل؟ سبعة وثلاثون شخصاً، مات إيلي منذ أسبوعين بسبب انخفاض معدّل السكري، قال أحدهم. وراح يشرح لنا أهمية مستوى السكري بالدم وكيف أثّر سوء التغذية على موت إيلي، كأننا في حضرة طبيب حفظ أسرار المهنة أكثر من أصحاب المستشفى. وزميله يختصر المشهد بالقول: "فليقدّموا لنا طعاماً جيداً، أو يتركونا في حال سبيلنا".
ننزل إلى الطبقة السفلية، فيتكرّر المشهد: عتمة وبرد وباب بقضبان يشبه أبواب المعتقلات، ورطوبة وروائح كريهة. تتهافت النسوة ويبدأن بالصراخ: "أرز ولحمة، يُطعموننا فقط أرز ولحمة على الغداء وفي المساء، وجبنة في الصباح، وفي حال عدم توفرها يُطعموننا فقط وجبتا الغداء والعشاء.. لا تدفئة ولا إنارة، لمبة واحدة تعمل أساساً في هذه الغرفة".
البحث عن الدكتورة
نهمّ بالخروج من المكان الأشبه بالقبو، فنقع على سلالم تؤدي إلى طبقة أخرى، تبيّن أنها مخصّصة للحالات المستعصية. المشهد يشبه بقية الغرف: مرضى بثياب رثّة يتهافتون إلى الباب. من أنتم يقول أحدهم؟ ويستطرد، هل أنادي الممرض المسؤول عن الغرفة؟ لنكتشف لاحقاً أن الممرض ليس سوى مريض مثلهم. بجانب هذه الغرفة، باب خشبي مفتوح كتب عليه غرفة مكتب، يؤدي إلى غرفة المرضى. وعوضاً عن خروج شخص مسؤول، كما يدلّ إسم الغرفة، يخرج علينا أحد المرضى. فنفهم أنّ المسؤول عن الغرفة تركها من دون أن يوصد الباب.
نهرع إلى الخارج في نيّة رؤية أي شخص مسؤول عن المستشفى، لنتفاجأ بأن غرفة الأخير ملاصقة لمدخل المستشفى حيث دخلنا. غرفة مظلمة كغيرها من الغرف، نكاد لا نرى وجه ذاك الرجل الخمسيني. نبادر إلى السؤال عن المرضى ووضعهم وسبب انقطاع التيار الكهربائي، يجيب: تقنين الدولة، والمولد لا يعمل بسبب عدم توفر المحروقات. لكنه تحفّظ عن الإفصاح بأي معلومات، وطلب منا طرق باب مالكة المستشفى الدكتورة سمر، مشيراً إلى منزلها القريب من المكان. وبعد التأكّد من عدم وجودها في مكتبها وفي منزلها. نعود إلى المستشفى من جديد. نستوقف رجلاً في الباحة الخارجية فنكتشف بأنه ليس إلا أحد المرضى. يتمتم بكلمات غير مفهومة، ويسحب ورقة من بنطاله المهترئ، كتب عليها رقم هاتف. نفهم أنه يطلب نجدة أحد أقاربه، ربما، علّنا نتصل به لمساعدته.
الفضيحة
أمام المدخل الرئيسي ركنت سيّارة لم تكن من قبل. ولكون المستشفى مشرّع لدخول من يريد، نعود ونقصد الغرف لنرى من هو الزائر الجديد. هو طبيب أتى لمعاينة إحدى المريضات. يرفض بتهذيب التفوه عن أي معلومة، ويحيلنا إلى مكتب الدخول للسماح لنا بالتصوير. ونظراً لبشاعة المنظر يهمس بأن أسباب هذه المشاهد الفظيعة متعدّدة... فعلى سبيل المثال وزارة الصحّة تغطي المرضى إلى سقف معين، وقد زاد عدد المرضى عن ذلك الحد، فوقعت الكارثة. أراد الاستطراد لكن مرافقه استدرك قائلاً بإنّ "الحق على الوزارة" وانتهى الحديث.
لكن كلام هذا الطبيب المهذّب نفاه أحد الأطباء الذين ما زالوا يعملون في المستشفى. فقد اكتفى هذا الطبيب في إتصال مع المدن بالقول: "عندما تشّيد حائط دعم لحديقتك كيفما اتّفق، يجب أن لا تلوم البلدية في حال إنهياره.. والدكتورة سمر اللبّان، تستطيع أن تقول ما تشاء، والرد الوحيد على إدعائها هو المثل: إن لم تستحِ فافعل ما تشاء". أي بمعنى آخر، يفهم من كلامه أن إلقاء اللوم على وزارة الصحّة، أو أي طرف آخر، غير جائز حتى لو كانت الأخيرة مقصّرة.
وهذا بالفعل ما قالته إحدى الطبيبات التي عملت في المستشفى لمدة خمس وعشرين عاماً، وتوقفت عن العمل منذ نحو أربعة أعوام. فحسب هذه الطبيبة، المسؤول الأول عن الأوضاع المزرية للمستشفى، هو صاحبة المستشفى التي ورثتها عن أبيها. فقد أنفقت كل الثروة التي ورثتها على حياة البذخ والإسراف، وانتهى بها الأمر إلى إهمال المستشفى وتركها للخراب.
صاحبة "المستشفى"
وفي اتصال مع اللبّان قالت إنّ وضع المستشفى حالياً أفضل بكثير من السابق! وبأنّ المناظر المؤلمة التي عاينتها "المدن" مردّها إلى وجود أشخاص "يسرقون" المستشفى، وبعدما اكتشفت أمرهم، عمدوا إلى كفّ يدها عن الإدارة منذ ثمانية أشهر، وقاموا بتعيين محامية المستشفى كمديرة إدارية ومالية. اليوم، الموردون الذين يزوّدون المستشفى بجميع المستلزمات، لا يريدون التعامل مع هذه المديرة. إذاً " فلتقلّع عائلة سوبرا شوكها بيدها"، أضافت اللبّان بتهكّم.
وإذ نفت اللبّان التهم الموجّهة إليها بالفساد المالي وبهدر أموال المستشفى لحياتها الباذخة، ألقت اللوم على المحامية، ولم توفّر استخدام أقذع العبارات بحق وزراء الصحّة المتعاقبين وبالإسم (نتحفظ عن ذكرها). فالأموال المتراكمة على وزارة الصحّة تصل إلى أكثر من 8 مليار ليرة، هذا فضلاً عن أن السقوف المالية المعطاة، لا تكفي حاجة المستشفى، في ظل عدد المرضى المرتفع.
لا مبالاة اللبان وقلّة درايتها واستخفافها بحق المرضى، كشفتها بلسانها الفالت من عقاله، إذ أكّدت تهمة فتح المستشفى أمام المرضى للهرب (فرّ 60 مريضاً)، عازية السبب إلى جدل مع أحد وزراء الصحّة، الذي رفض رفع السقوف لتشمل عدد المرضى الفائض عن الحد المرسوم، فلجأت متحدّية إياه إلى فتح أبواب المستشفى أمام المرضى للهرب، وأثبتت له أنها "مرا قد كلمتها"، حسب قولها.
هي حفلة جنون بالغة الشر والأذى، ممن يسمون أنفسهم "عقلاء" وأصحاء، فيما الضحايا هم الموسومون بالمرض العقلي.
ليوقف أحدهم هذه المهانة الإنسانية.