حملة "عالمكشوف": الثورة تجتاح البلديات وفسادها
"الفساد، الفساد... جوّا جوّا في البلديات"، صرخ مواطن معتصم أمام مبنى بلدية زغرتا في الأيّام الأولى من انتفاضة 17 تشرين الأول الماضي.
في اعتصام آخر توقّفت مجموعة من المتظاهرين أمام مبنى بلدية بيروت، وهتفت "كلّن يعني كلّن"، مذكِّرين المسؤولين في البلدية أنّ الشعار لا يستثنيهم. وفي طرابلس اعتصم عدد من الأهالي أمام جبل النفايات في الميناء اعتراضاً على سوء إدارة اتحاد بلديات طرابلس.
البلدي والمركزي
هذه المشاهد المتعاقبة، المعترضة على سوء أداء مجالس بلدية، لم تشمل باقي المناطق، وظلت محصورة في تحركات محدودة شهدتها بعض المدن والبلدات. فلم تحظى البلديات بنصيبها الكافي من الاعتصامات والاحتجاجات، بالرغم من حجم الفساد في عملها منذ التسعينات حتى اليوم.
اعتراض اللبنانيين المحق على سوء إدارة مؤسسات الدولة المركزية وفسادها، جاء أقوى زخمًا منه تجاه المؤسسات المحلية التي يفوق حجم الفساد في بعضها حجمه في المؤسسات الحكومية المركزيّة، والمحلية منها على مقربة من بيوتهم في المدن في البلدات والقرى.
حملة عالمكشوف
تزامنًا مع بدء الثورة، أطلقت جمعيّة "نحن" التي تعنى بالإرث الثقافي، والحكم الصالح والتخطيط المدني، حملة "بلديات عالمكشوف" الهادفة إلى نشر قرارات المجالس البلدية على المواقع الإلكترونية الخاصة بها. وتهدف الحملة أيضاً إلى التوعية حول ضرورة مساءلة الناس بلدياتهم. وعلى لوحات إعلانية في مناطق لبنانية عدة جرى تعميم سؤال: "بعدَك ما سألت بلديّتك عن مصرياتك؟". ويقول محمد أيوب، رئيس الجمعية، إنّ الحملة أطلقت في الأصل عام 2016، على أن يعاد التذكير بها في مراحل عدّة لمدة سنوات خمس. أما تزامن إعادة إطلاق الحملة مع انطلاق الثورة، فيعدّه أيّوب صدفة جميلة، خصوصاً أن اللبنانيين أصبحوا أكثر وعياً وإصراراً على المحاسبة والمطالبة بحقوقهم.
وتهدف الحملة إلى التوعية بشؤون البلديات، وهي شؤون الناس أولاً وآخراً. وصلاحيات البلديات لا يجهلها الشعب فحسب، بل مسؤولوها أيضا! ويقول أيّوب إنّ العدد الأكبر من اللبنانيين، لا يعرف مثلا أنّ 10 في المئة من فاتورة الخليوي تصبّ في البلديات، وكذلك الشطر نفسه من فاتورة المياه والكهرباء. وتسلّط الحملة الضوء على واجبات البلدية ونطاق عملها، مثل تأمين مساكن شعبية لأصحاب الدخل المحدود، وإنشاء طرق وإضاءتها، وحدائق ومنتزهات وساحات ومكتبات عامة، وأسواق شعبية، وتأمين شاطئ عام آمن ونظيف، وإنشاء مستشفيات ومدارس، ومعامل لمعالجة النفايات والصرف الصحي.
الحق في السؤال والجواب
والسؤال الذي يطرح نفسه وتطرحه الحملة هو: طالما لا يتحقق إلا القليل من هذا كله، فأين هي أموالنا؟
يقول أيّوب إن القانون لا يكفل للمواطنين اللبنانيين حقهم في طرح السؤال فحسب، بل حقهم في الحصول على إجابة. فالمادة 55 من قانون البلديات، تشير إلى ضرورة نشر القرارات النافذة ذات الصفة العامة التي يتخذها المجلس البلدي، على باب مركز البلدية. وتنص المادة 45 من القانون نفسه على حق كل ناخب في الدائرة البلدية أو صاحب مصلحة، أن يطلب على نفقته الحصول نسخة من قرارات المجلس البلدي، يصدق عليها الموظف المختص. ويضيف أيّوب: "في العام 2017، أقرَّ قانون الحق في الوصول إلى المعلومات الذي يعزّز المادّتين المذكورتين أعلاه". لكن الواقع مختلف تماما. ذلك أن 2 في المئة فقط من مجمل البلديات في لبنان، التزمت بوجوب نشر قراراتها. أمّا البلديات الأخرى، فتحجب ما يحق للشعب الاطلاع عليه. وهذا يشمل القرارات والأموال البلدية.
فوضى عارمة
يقول حسين حلال، خبير في الشؤون البلدية، إنّ معظم رؤساء البلديات يجهلون القانون البلدي وسبل الإدارة. أمّا الجزء الأكبر منهم فـ "حراميّة". ويضيف: "وهذه هي المشكلة الأكبر، وتكمن في القانون والرقابة على عمل البلديات والمسؤولين عنها والموظّفين فيها". ويذكّر حلّال أنه كان من المفترض وضع عمل البلديات تحت رقابة ديوان المحاسبة. لكن هذا لم يحصل، ولو حصل لكان نصف رؤساء البلديات خلف القضبان.
يعتبر حلّال أن الوصف الأكثر دقة لعمل البلديات هو الفوضى العارمة. ففي القرى والبلدات والمدن الصغيرة، لا تزال عقلية العائلات واستئثارها بالبلدية وتوزيعها محاصصة في ما بينها، هي السائدة. ويضيف: "الفساد في البلديات غالباً ما يكون على شكل خدمات للأخ والأخت وابن الخال وابن العمّ والمقرّبين". لكنّ هذا النوع من الفساد تضاف إليه أنواع أخرى أكثر خطورة، تنخر البلديات الكبيرة والصغيرة. إنها التلزيمات، والموظفون الوهميّون من خارج الأطر القانونية، وغيرها من أشكال الفساد التي لا تنفكّ تضرب البلديات، وتتلوّن حسب المنطقة ونطاق سلطة كل بلدية وزعيم على الناس. ففي أغلب الأحيان، يكون رئيس البلدية مجرّد واجهة للزعيم الذي ينفرد بالكلمة الأولى الأخيرة. أمّا الشكل الأساسي للفساد فهو التحايل على القانون من خلال تجزئة النفقة، هربا من العمل عبر الأطر القانونية وإجراء مناقصات حسب القانون.
تحدي السلطة
وعلى الرغم من أن مساءلة اللبنانيين لبلدياتهم كانت ضعيفة أو شبه معدومة، لكن الأمور اختلفت منذ 17 تشرين الأول الماضي. ليس الشارع وحده شاهد على ذلك، ولا الوقفات القليلة، بل التحركات الرمزية التي قام بها المتظاهرون أمام بلدياتهم. وبحسب أيّوب، إن موقع الجمعية يتيح لمستخدمه تحميل استمارة طلب الحصول على نسخة عن قرار أو تقرير بلدي، يملأه المستخدم بعد طبعه ويسلّمه للبلدية. والتهافت على طلب الحصول على نسخ عن قرارات وتقارير البلديات، تؤكد أنّ ما قبل تشرين ليس كما بعده. ويشير رئيس الجمعية إلى أنّ ألوفاً من المواطنين يحمّلون هذه الاستمارة. فالناس صاروا أكثر جرأة اليوم من ذي قبل. فهم يسألون ويطالبون ويتحدون السلطة.