"نادي القضاة" خطوة ثورية لتحرير القضاء من براثن السلطة
برز مع انطلاقة الثورة في لبنان دور مهم لـ"نادي القضاة" في الدفاع عن مصالح الناس بمواجهة الفساد. ومع صدور بيانه الأول، اكتسب النادي موقعه كوعد حقيقي لإصلاح الجسم القضائي وتحقيق استقلاليته، وجعْله فاعلاً ومنفذاً لمبدأ المحاسبة.
ونادي القضاة اللبناني بنشأته شكّل خطوة ثورية ضد المنظومة المفروضة التي تصادر السلطة القضائية لمصلحة السلطة السياسية. وارتبطت انطلاقته بشعار استقلالية القضاء، وكانت بهذا في مواجهة مفتوحة مع السلطة السياسية الحاكمة داخل القضاء وخارجه. فقد تسلّح بالمواثيق الدولية ومدونات الأخلاقيات القضائية، التي تؤكد على حرية التعبير والحق بالتجمع في مواجهة ما يكرسّه القانون اللبناني من قيود تجرّدهم من ضمانات الاستقلالية هذه. فالقضاة في لبنان محرومون من حقّهم بالتجمّع ويفرض عليهم موجب التحفظ بصيغة موسعة تحوّله إلى قمع لحرية الرأي والتعبير. تتفاقم نتائج هذه القيود في ظل تكريس علاقة تبعية بين القضاة والسلطة التنفيذية المشكلة من زعماء الطوائف، من خلال التعيينات والتشكيلات القضائية التي تصدر بمرسوم عن مجلس الوزراء.
تبني "المدن" هذه السردية تبعاً لمقابلات مع قضاة من النادي.
معركة الإنشاء
عام 2018 وفي سياق إقرار الموازنة، توجّهت السلطة السياسية لتضمينها مواد تطال ضمانات القضاة الاقتصادية والاجتماعية. وتم انشاء مجموعة واتساب تجمع قضاة لبنان. وكانت السلطة السياسية "تضغط على مجلس القضاء الأعلى ليتنازل القضاة عن حقوقهم" آن ذاك. هكذا "أصبحت الفرصة سانحة ليحقق القضاة فكرة متداولة بين قلة من القضاة منذ عشر سنوات بأن يتجمعوا". وقرر عدد من القضاة أنه من الواجب التجمع وفقاً لما تسمح به المعايير القضائية ومن أجل الدفاع عن حقوقهم وضماناتهم الدستورية التي تكرسها المادة 20 من الدستور. ربيع 2018 تم توقيع طلب التأسيس وأصبح نادي قضاة لبنان عضواً مؤسساً للاتحاد العربي للقضاة، في عام 2019 أصبح لبنان عضواً دائماً في الاتحاد الدولي للقضاة، الذي يضم قضاة وجمعيات من 93 دولة في العالم.
خلال مرحلة التأسيس "تم إرسال كتابين من مجلس القضاء برئاسة القاضي جان فهد إلى قضاة بشكل فردي، خلاصتهما حث القضاة على عدم الانتساب إلى النادي واعتباره متعدياً على صلاحيات مجلس القضاء الأعلى. وقد تمت محاسبة القضاة والتضييق عليهم". كل هذا حصل في خضم معركة موازنة تتجه لإلغاء صندوق تعاضد القضاة، في الوقت الذي "تحوز وزارة العدل على المرتبة الثالثة بين الوزارات على صعيد إيرادات الدولة".
من هذا المنطلق كان مطلب النادي أولاً أن يأخذ مجلس القضاء الأعلى موقفاً من عدم استطلاع رأيه قبل تضمين الموازنة مواد تمس بالقضاة. لتحقيق هذه الغاية "قام نادي القضاة ومعهم قضاة من خارجه بالاعتكاف"، وصدرالعديد من البيانات عن النادي تبين مخالفات قانونية في الموازنة. بالمقابل "قام العديد من القضاة بمحاربة هذا الحراك تماهياً مع السلطة السياسية غير الآبهة بحقوقنا".
صدرت الموازنة بالنتيجة كما هي ولم تسمع السلطة السياسية الى القضاة ولا للعسكريين كذلك. عندها "قام النادي بتحضير طعن بالموازنة وقّعه احدا عشر نائباً وقدّموه إلى المجلس الدستوري بحيث ابطلت المواد التي تطال القضاة بمعظمها". الآن يجد النادي نفسه أقوى، ويعتبر قضاة أن "تولي القاضي سهيل عبود لرئاسة مجلس القضاء الأعلى جاء من رحم حراكهم".
ثورة 17 تشرين
القضاة الذين اطلقوا حراكهم عام 2018 "تماهوا مع الانتفاضة الشعبية عام 2019 وغيّروا الصورة النمطية عن القضاة في أبراجهم العاجية". من هنا أصدر النادي في 18 تشرين الأول بياناً دعا فيه إلى "استقالة الحكومة، انتخابات نيابية مبكرة، واصلاحات اقتصادية". كذا شدّد البيان على "إصدار قانون استقلالية القضاة، والذي سرعان ما أصبح مطلبا شعبياً ينادي به المواطنون". وانتشر الوعي بضرورة الإصلاح القضائي. وتلقفت الأحزاب السياسية ولجنة الإدارة والعدل مؤخراً هذا الأمر، فدعت إلى مناقشة مشروع القانون. لكن لجنة الإدارة والعدل لم تدعُ نادي القضاة ولا "المفكرة القانونية" التي صاغت المشروع، واقتصرت الدعوة على مجلس القضاء الأعلى. وعبّر النادي عن "ضرورة تطبيق قانون الإثراء غير المشروع وقانون مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب".
بوجه مجلس النواب
لاحقاً أرسل النادي كتاباً إلى هيئة التحقيق الخاصة بمصرف لبنان، في 21 تشرين الأول، دعا فيه الهيئة المنشأة بموجب قانون مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، لرفع السرية المصرفية عن المستفيدين والمتعهدين وشركائهم في القطاع العام والخاص، من أجل ملاحقتهم بجرائم تبييض الأموال، ومخاطبة الدول الأجنبية للقيام بالأمر ذاته. بتاريخ 31 تشرين الأول سجل النادي بلاغاً رسمياً لدى الهيئة لتجميد حسابات هؤلاء ولم يلقَ جواباً. أيضاً تقدّم النادي بكتاب إلى "مصلحة حماية المستهلك في 5 تشرين الثاني ضد شركتي الخلوي تاتش وألفا، بوجوب التسعير والقبض بالليرة اللبنانية ولم نلق جواباً". بالمقابل صدر قرار قضائي في هذا المجال تبعاً للشكوى المقدمة من جمعية حماية المستهلك. الفرق بين كتاب نادي القضاة والقرار الصادر تبعاً للشكوى المذكورة "يتعلق بكون القرار أبقى على حق الشركتين التسعير بالدولار وألزمها حصراً بالتسعير بالليرة اللبنانية".
أيضاً برز موقف نادي القضاة صريحاً لناحية جدول أعمال مجلس النواب الذي تضمن مقترحي قانون العفو العام وإنشاء محاكم خاصة للجرائم المالية. وقد أصدر النادي بياناً في هذا الصدد. لم يتوان النادي عن الوقوف الصريح إلى جانب الناس ومطالبها. وبالتالي، الكلام باسم مصلحتها، بالقول أن "ما يريده الناس اليوم ليس طياً لصفحة الماضي والصفح، بل طياً لصفحة الفساد، لزمن الفساد واللامحاسبة وضعف الدولة والتعدي على القضاء". أيضاً غرّد النادي عبر صفحته على فايسبوك رفضاً " لمحكمة غير مستقلة لملاحقة الجرائم المالية". وفي هذا المجال أيضاً أعلن النادي صراحةً عن نقده لمشروع القانون انطلاقاً من كونه يلتف على مطالب الناس، من خلال طرح عناوين رنانة "رغم أن إنشاء محكمة متخصصة لمحاكمة الجرائم المالية يُظهر أن مسألة مكافحة الفساد تحتل أهمية مُتقدّمة، لكن هذا العنوان الجذّاب يتناقض مع مضمون الاقتراح، إذ نستنتج من قراءة مواد اقتراح القانون (...) إنها -أي المحكمة- ستؤدي إلى منح حصانة إضافية لمن يُفترض محاكمته".
ماذا حقق النادي؟
يجد قضاة في النادي أن الدور الذي يلعبه هو بشكل أساسي توعوي، عبر تبيان مكمن الخلل القانوني وأدوات ملاحقته، وتصويب الوجهة إلى المكان الذي تجب دفع المحاسبة من خلاله. ففيما تروّج السلطة إلى ضرورة تشريع قوانين للمحاسبة، يأتي النادي بالقوانين الموجودة ليطالب بالبدء بالمحاسبة عبر تطبيقها. وفيما تسوق السلطة السياسية لمقولة أن الثورة تؤدي إلى الفوضى والفراغ في حال استقالة الحكومة، يحمل النادي هذا المطلب إلى جانب الشارع ليؤكد أن الفراغ ليس قانونياً ومؤسساتياً إنما هو سياسي بحت. والأهم، يشكّل تماهي نادي القضاة مع الثورة والركون إليها لبناء دولة المؤسسات والقانون، ما هو إلا تبلور لحصاد التحركات المتفرقة والمتراكمة منذ 2015. فبوجود النادي تحوّل القضاة من موقع المنفصل عن الشارع والمطالبين بحقوقهم، إلى موقع المدافع والحامي للحقوق العامة وحقوق الأفراد.