الثورة تحرر الحياة والكلام في ساحة التَّل الزغرتاوية
كلام المقاهي والثورة
لكن مع انطلاق ثورة اللبنانيين المستمرة منذ 17 تشرين الأول ضد الطبقة الحاكمة، عادت النقاشات السياسية إلى ساحة التل، إنما بحركة معاكسة: أُخرجت بعض كراسي المقاهي إلى وسط الطريق، ليبدأ النقاش وينتهي في الفضاء العام، أي وسط الطريق. فالثورة منذ انطلاقها تحقق إنجازات كبيرة، وأخرى صغيرة. ساحة التل في زغرتا هي من إنجازاتها الصغيرة الساحرة.
على الرغم من مظاهرها الخجولة بعض الشيء، مقارنة بمناطق أخرى كجارتها طرابلس، الثورة في زغرتا قائمة ومستمرة، وتتخذ أشكالاً مختلفة وتتبلور تباعا: قطع الطرق بالإطارات المشتعلة في اليومين الأوّلين، ثم الاعتصام في أماكن محددة، قبل أن تنتقل إليها عدوى الموسيقى والطبل والزمر، لتجد إيقاعها الخاص بعد ذلك. وإلى جانب التحركات والاعتصامات، ضبطت زغرتا إيقاع ثورتها، فحدّدت يومين في الأسبوع، الخميس والسبت، لنقاش يواكب التغيّرات التي تشهدها البلاد.
ندوات ومناقشات
يقول فوزي يمّين، الكاتب والأستاذ الجامعي وأحد منظمي هذه اللقاءات، إنّه لاحظ في أيام الثورة الأولى أنّ الناس يلتقون في التظاهرات، غير الملائمة لتبادل وجهات النظر. ويضيف: "لاحظنا أن عددا كبيراً من المتظاهرين لا يفهم الوضع بدقّة: يطالبون باقتصاد أكثر ازدهارا، لكنهم لا يعرفون لماذا انهار الاقتصاد اللبناني على هذا النحو. يشاركون في الثورة ومطالبهم محقة، لكنهم لا يعون مدى أهميتها. يطالبون بقضاء مستقل ولا يعلمون كيف يمكن تحقيق ذلك". لذا جاءت فكرة تنظيم لقاءات لتحفّز النقاش الناس، واستضافة شخصيات من وجوه الثورة وداعميها ليقدّموا طرحًا لجانب من جوانب الوضع الراهن.
وتتالت الدعوات إلى اللقاء في ساحة التل: مع شربل نحاس، أمين عام حركة "مواطنون ومواطنات في دولة"، لكنه تغيّب عن اللقاء، فحضر بدلاً منه موسى الخوري، أحد مؤسّسي الحركة. اللقاء التالي كان مع الأستاذ الجامعي جميل معوّض تحت عنوان "ليش وصلنا لهون؟"، فقدّم قراءة سياسية اقتصادية لنظام ما بعد الحرب، إضافة إلى تحديات الثورة. وتحدّث معوّض عن الضريبة على خدمة الـ"واتس آب" المجانية التي تم التداول بها عشية انطلاق الانتفاضة، معتبرا أنّها تلخّص تعاطي السلطة مع المواطنين.
واعتبر معوّض أن نظام ما بعد الحرب أقنع اللبنانيين بغياب الدولة، بضرورة الخصخصة، وأنّ الحياة السياسية غير ممكنة في غياب الأحزاب الستة أو الثمانية. أما أهم إنجازات الثورة، فهو تحرير تصوّرات الشعب اللبناني من تلك الاستحالة. ثم تحدّث معوض عن عنف السلطة والذي لا يقتصر على سلاح حزب الله، بل ينطوي أيضا على عنف رمزيّ، كالعنف الماديّ والبيئي والمعيشي، قبل أن ينتقل إلى الأزمة الاقتصادية والمالية، داعيا إلى خلق مبادرات من التضامن الاجتماعي بين اللبنانيين، لاحتواء الأزمة القادمة.
وبحسب يمّين، تهدف حلقات النقاش إلى المواكبة الواعية للثورة، والتشديد على أحقّيتها وكيفيّة فهمها ودعمها واستمراريّتها، إضافة إلى التحدّيات التي تواجهها. وجاء اللقاء الثالث مع المدير التنفيذي للمفكرة القانونية نزار صاغية الذي أدار النقاش تحت عنوان "استقلالية القضاء، والآلية القانونية لاستعادة المال المنهوب".
وشدّد صاغية على أنّ استقلاليّة القضاء هي المدخل الأساسيّ لمحاربة الفساد. وذلك بتشريع أفضل القوانين وأكثرها عدالة، مع آليات تطبيقها واحترامها باستقلال السلطة القضائية، عن السياسيّين، منوّهاً بمبادرة نادي القضاة المستقلّين: "من المعيب أن تتحوّل العلاقة بين القاضي والزعيم إلى ما هي عليه اليوم. أي مشهد القضاة المتوجهين إلى بيوت السياسيين لتقديم الولاء للزعماء". وهو تحدّث أيضاً عن خطورة قانون العفو الذي كان مدرجاً على جدول أعمال جلستَي مجلس النواب التي عطلّتها الثورة.
نمط العيش اللبناني
الكاتب وأستاذ الأنثروبولوجيا أنطوان الدويهي اعتبر في اللقاء الرابع، تحت عنوان "الثورة، أي أفق ينتظرها؟" أن "من اللافت والمفرح ظهور الثورة عشية مئوية لبنان الكبير"، معتبرا أنها أجمل وأثمن هدية للبنان. وتابع مؤسّس حركة "الوعي" التي شهدها لبنان قبل الحرب الأهلية: "إضافة إلى طابعها الشعبي والموحّد البارز، تحمل هذه الثورة بعداً ثقافياً بالغ الأهمية، شأنها شأن جميع الثورات الحقيقية. فهي تشكّل حدّاً فاصلاً بين زمنين. فلبنان بعدها لن يكون كما كان قبلها".
أما البعد الثقافي للثورة، فيتجلّى - حسب الدويهي - بتحرّر عشرات آلاف الأفراد الذين يعودوا هم أنفسهم، معتبرا أن هذا التحوّل داخل الأفراد هو أعظم وأعمق ما حملته هذه الثورة. ثم تطرّق إلى الجانب الاجتماعي للثورة، معتبرا أن "الحراك الشعبي في عمقه دفاع عن نمط الحياة اللبناني. وهو على الأرجح أهم إنجازات التجربة اللبنانية منذ 1861 إلى اليوم". وختم: "وهو نموذج حياة فريد من نوعه في الشرق، النموذج الذي كان العالم العربي كله، من المحيط إلى الخليج، يتوق إليه ويحلم بعيشه".
اللقاء الأخير كان مع الأستاذ الجامعي ميشال الدويهي تحت عنوان: "الثورة والوعي السياسي: نحن وهم". شدّد الدويهي على أنّ قوّة الثورة تكمن في طابعها السلميّ، وفي ضرورة الحفاظ عليه في وجه الفخّ الذي تنصبه السلطة للشارع، وفي رفض الشارع لملاقاة السلطة في منتصف الطريق". وأضاف: "الثورة لا تساوم، الثورة تطالب وتفرض". وعند سؤاله عمّا إذا كان من الأفضل أن يطرح الشارع اسما أو اثنين لترشيحهما لرئاسة الحكومة، اعتبر الدويهي أنّه لا يتوجّب على الشارع أن يقوم بمهام السلطة، والتي تقضي بالدعوة إلى الاستشارات النيابية اليوم قبل الغد وتأليف حكومة إنقاذ انتقاليّة مستقلّة.
وعن شرعية المجلس النيابي، فرّق الدويهي بين الشرعية القانونية التي لا يزال يتمتّع بها المجلس المنتخب، وبين الشرعية السياسية التي فقدها، بعدما نجحت الثورة في منع انعقاد الجلسة النيابية مرّتين، رفضا لجدول أعمالها.
بين انتفاضتين
أسئلة الحاضرين هي التي أضافت سحرها على الجوّ. فعلى الطريق العام، وُضعت الكراسي بشكل دائريّ حول الضيف من دون خيمة. غالبا ما فاق عدد الواقفين الجالسين على الكراسي. البعض اختار الوقوف، أو وصل متأخرا، أو كان يمرّ مرور الكرام فتفاجأ بالنشاط وقرر الاستماع للنقاش. والبعض يسأل الضيف أسئلة لا أحد يملك إجابة عليها من نوع: "ماذا سيحدث بعد الثورة؟". آخر يأخذ النقاش من المساحة الوطنية للسؤال عن زغرتا وعن سبب الحشود الخجولة فيها. ثالث يسأل عن حتمية المواجهة مع حزب الله. وكان السؤال الأكثر بروزا عن وضع البلاد الاقتصادي.
يمّين اعتبر أن "هذه الحلقات تؤكد على أنّ مجتمع زغرتا -الزاوية لا يزال حيّاً، وأهله فاعلون وقادرون على استعادة الحيّز العامّ ليلتقوا ويتحاوروا ويطرحوا همومهم وهواجسهم". وختم: "طالما رأسمالنا الاقتصاديّ في انهيار، فالرّهان على رأسمالنا الاجتماعيّ والإنسانيّ".
ويتحضّر تلّ زغرتا للقائه السادس مع الناشط والأستاذ الجامعي جيلبير ضومط يوم الخميس 28 تشرين الثاني تحت عنوان: "بين حراك 2015 وثورة 2019، ما هي الدروس؟".
في النهاية، من المنطقي اعتبار النقاشات على ساحة التل في زغرتا إنجازاً صغيراً من إنجازات الثورة مقارنة مع إسقاط الحكومة وتعطيل جلسة مجلس النواب مرتين في ظرف أسبوع اعتراضا على جدول أعمالها. لكنه، وعلى الرغم من ذلك، يبقى إنجازاً كبيراً لهذه المدينة الصغيرة.