نهاية الجامعة: لا فسحة ولا أمل
في اليوم الأول لي في "الجامعة اللبنانية الأميركية" وقف أمامنا عميد قسم الإقتصاد، وقص علينا رحلته في أرض الفرص وسياسيات الباب المفتوح. أوّلت في بادئ الأمر أنه أميركي المنشأ. لكنته وبزته الكاكية وحتى نظاراته وشت بذلك. إلى أن ذكر أنه لبناني. جامعتي وأشخاصها، إذ بدأت كصرح للمبشرين الإنجيليين، صارت في ما بعد متراساً للمفاهيم الديمقراطية التقدمية. تدعي أن الجميع سواسية، وتنادي بالشفافية وإشراك الطلاب في صنع القرار وغيره. لا أنكر أن ما شاهدته أذهلني، أنا الحاصلة على منحة إحدى برامج الخارجية الأميركية. ومع هذا، كانت الجامعة تضاداً للمحافظة التي رأيت أخيراً مهرباً منها.
لم نجد، أنا والرفاق، مكاناً لنا في حرم الجامعة. رهط تجاذبته جميع الأضداد وقذفته الخطابات الأميركية ومفاهيمها إلى الخارج. لا نلتقي الطلاب أبداً. مرت ثلاث سنوات، لم أستحسن خلالها كل ما أحاطت به جدران الجامعة. كانت سياسات إدارة شؤون الطلاب أقرب إلى اللاسياسة، وكانت سريالية بالمطلق: الجميع يعلم إلى أي صف تنتمي ومع ذلك كان جلب "السياسة" إلى الجامعة ممنوعاً. كأننا لم نعرف، في انتخابات المجلس الطلابي مثلاً، أن حملة "تغيير مستقبلنا" منحازة إلى "حزب الله"، أو أن "نادي العلاقات الدولية" ليس من "حزب الله" أيضاً.
لاحقاً إلتمسنا تغييراً في وجود حركة طلابية بديلة عن الوضع الراهن، وحاضنة لما يخالف السائد. فدخلنا انتخابات الجامعة، لتهطل علينا الإتهامات من كل جانب ونسمى بـ"قرطة الشيوعية". نحن وإن لم ينكر بعضنا توجهاته، كنا نرفض محاولات دنيئة لدفن ما جئنا به. سريعاً تبددت الحماسة بعدما خسرنا في انتخابات عامنا الثالث الأمل في أي تغيير- خلاصة مولد طاقتنا- لذا توقفنا. وبذلك، كنا نحسد زملاءنا في "الجامعة الأميركية" في بيروت على ما وُفر لهم وحرمنا منه.
حاولنا أيضاً أن نجد ما قد يخرق الرتابة السياسية في الجامعة ويخاطب اللامبالاة، بإقامة نادٍ علماني على شاكلة ما أوجده طلاب في "الأميركية". قوبل ذلك بالرفض المطلق من الإدارة. وقيل لنا أننا نغرر بالطلاب. أغلب الأمر أن المشروع أوقف، رغم إستيفائه الشروط المطلوبة لإقامته، بسبب حسابات سياسية.
خيبات الأمل هذه لم تسببها إدارة شؤون الطلاب فحسب، ولم تقف عند إحباطي بطلاب لا يأبهون للتغيير. شعرت برغبة لدى بعض الأساتذة بصدّ ما قد يصدر عن الطالب إن رأوه مخالفاً للنمطية. كان أجدر بي أن أجاريهم على أن أجهر رفضي لذلك، وكلفتني "وقاحتي" بعضاً من علاماتي.
تبقى لي ذكرى أصحابي، من بين مئات الذكريات التي حملتها من الجامعة، في "سكواد التنمير اليساري"، التسمية التي أطلقناها على تجمعنا الصغير. هي أشبه بعصبة من الكويريين اليساريين محبي التخريب، الناقمين على بيروت والحالمين بالهجرة، والمبغضين للشوفانيين وثقل دمهم الفينيقي، الساخرين من النمطيين وسوء ذوقهم في الملابس. غردنا بعيداً من سرب الجميع، لكننا استطعنا وحدنا أن نتجاوز عقباتنا معاً. وتركنا أثرنا الصغير في الجامعة، لأن أولاد البيك ليسوا أجدر بها منا.
يمر في ذهني اليوم، وأنا أجلس في صفوف الخريجين، وصاحب الدكتوراه الفخرية يلقي علينا خطاب السوق والسلعة، أن ما أتلفتُ أعصابي من أجله في آخر ثلاث سنوات مرّ من دون جدوى. لم أحصل على تذاكر التخرج "VIP" مثل أهالي الطلاب ذوي الشأن، لحضور حفل التخرج، مع أنني أهلٌ لها. ولم أتخط العوائق التي سببها أنسلاخي عن بيتي المحافظ، وثبّتها عدم اندماجي في محيط الجامعة.
ولأني بدأت في القعر ولم أخرج منه (بعد)، فإن ما مررت به هنا كان عبثاً.