يهود طرابلس: التاريخ المكتوم..حتى الهجرة الاخيرة
خلف حي التربيعة الحزين، لا يتذكر السكان الحاليون أي تفصيل عن تاريخ المكان، الذي يشغلونه بأثاثهم وأغراضهم الشخصية، ويتمددون في غرفه المتهالكة. يرسو المكان في ذاكرتهم مساحة عيش فحسب، بأبنيته الآيلة للسقوط وعزلته التي فُرضت عليه، بعد شق طريق وسط سوق النحاسين وصولاً الى باب الحديد. يسكنونه بثقل ويعزلونه في حيواتهم عن جذروه، إذ يقول التاريخ إن يهود المدينة عاشوا خلفه في زقاق متفرع من شارع الكنائس وموصول به.
كان الشارع في تفرعاته يضم مصانع انتاج للعرق تابعة لآل السبعلي، قبل توقفها عن العمل في بداية العام 1982 في ظل "حركة التوحيد". سكنت الشارع الى بداية السبعينيات عائلات مسلمة ومسيحية، مع أقلية يهودية انعزلت في ما يشبه الـ"غيتو"، داخل حي سميّ باسمهم، وأنشئ في القسم المدمر من المدينة بعد أن غزاها المماليك. عمل هؤلاء على تأسيس البنوك الصغيرة، وفي اعمال الدباغة والصباغة، فور وصولهم من فرنسا في ايلول العام 1254 بسبب تهديد الملك لويس التاسع بطردهم.
عاش اليهود أبهى لحظاتهم في هذا الحي، قبل ان يغادروه بصمت على دفعتين، على الرغم من ان أحداً لم يتعرض لهم، تاركين معبدهم وحيهم الصغير الذي شابه أحياء اليهود في مدن اسلامية وعربية أخرى. الهجرة الأولى مطلع الخمسينيات كانت الى زغرتا المسيحية بعد النكبة، والثانية بشكل نهائي وصامت مع بداية حرب حزيران 1967، والمعروفة بـ"حرب الأيام الستة".
تاريخ اليهود في طرابلس قديم العهد، لكن توثيقه يبدو ضئيلاً. تمر الوثائق بشكل خجول على وجودهم، ومن دون اكتراث يحصر كتّاب كثر علاقة هذه الطائفة بالمدينة القديمة وضواحيها، ويشيرون الى حيهم فقط، من دون ان ينقلوا مرويات عنهم. ومحاولة التوثيق هذه، لم تشمل اي ذكر لتفاصيل عيشهم في بداية القرن العشرين وتوزع محالهم في أسواق المدينة، واشتغالهم في مهن كثيرة، وتداخلهم في النسيج الطرابلسي اقتصادياً.
يقال انه خلال فترة حكم الملك بن عمار لطرابلس، وصلت نحو 150 أسرة يهودية إلى المدينة. سكنوا في احياء قرب الساحل. وهذا ما يؤكده ابن بطوطة في زيارته سنة 1327. اما الحي اليهودي الثاني في المدينة، فكان خلف جدار الكنيسة الأرثوذكسية الرومانية للقديس جورجيوس في منطقة الزاهرية، وبالقرب من مدخل خان العسكر، وهو حي طمست آثار سكانه اليهود بعد "نكسة حزيران".
وتشير الوثائق النادرة الى انتشار وباء الطاعون في العام 1348 وهو ما تسبب بخفض أعداد الطائفة، فمات عدد كبير منهم ودفنوا خارج المدينة في منطقة الكورة، اضافة الى الزلزال الذي ضرب طرابلس في العام 1403، الذي هدم بيوتهم وتسبب بمقتل بعضهم.
وتؤكد الوثائق ان تراجع عدد اليهود في طرابلس، في السجلات الموّثقة، يعود الى اعتناق مجموعة منهم المسيحية مع بداية العام 1537 قبل خروجهم من الأندلس والاستقرار في طرابلس، التي جذبتهم لقربها من الساحل، ولتعدد أسواقها ومهنها وتنوع نسيجها الديموغرافي والاثني.
ومع بداية عام 1555، وصل عدد الاسر اليهودية الى 155 عائلة، وعلى رأسهم الحاخام اسحاق ميشان. وفي سنة 1571، كان هناك 132 عائلة يهودية طرابلسية تسكن الحي اليهودي حيث قامت بزرع الحوامض والدراق وشجر العريش (العنب).
وكان هذا الحي لافتاً، اذ يؤكد بعض الرحالة ممن زار المدينة، انه كان هادئاً وكان سكانه شديدي الحذر وقليلي الاحتكاك بسواهم. وأقيمت لليهود قرب الحي مقبرة، وكانت هذه أول مرة يشار فيها الى وجود مقبرة لهم داخل المدينة.
وتشير جريدة "النهار" في عدد صادر في العام 1966 الى ان ابن طرابلس المعروف باسم دبّا، هاجر من طرابلس الى فلسطين عام 1919، وكانت تزين مدخل بيته نجمتا داوود، وطلب من صديقه وجاره أبو خالد، الحفاظ على هذا البيت القديم.
وفي العام 1920 تذكر الوثائق انه تم اغلاق الكنيس، الذي تحول الى سوق للدباغين.
وفي 5 من أيلول من العام 1946، مات آخر حاخامات المدينة شحادة ابن ايليا صفدي، الذي ولد في طرابلس وتوفي بعمر 47 سنة. ودفن في مقبرة اليهود في بيروت نظراً الى الاهمال اللاحق بمقبرة الطائفة بطرابلس.
وبعد فيضان نهر ابو علي في 17 كانون الأول من العام 1955 هدد الحي والمقبرة والمعبد بالانهيار، لكن بلدية طرابلس أتخذت قرار بهدم جميع الأحياء المتضررة الواقعة على ضفتي النهر، ومنعت تنفيذ القرار بحق الحي اليهودي ومعبده.
وفي نهاية الخمسينات من القرن العشرين، اسندت اللجنة المسؤولة عن عقارات الجالية اليهودية المحلية (الأوقاف)، الى ابن طرابلس دافيد ابن جوزيف مزراحي، المولود في طرابلس سنة 1910، حق احتكار الأرض المجاورة للمقبرة وتحويلها مصنعاً للزجاج (عقد ملكية نمرة 19 في محلة الزاهرية).
ويؤكد الكاتب والباحث صفوح منجد في حديث لـ"المدن" ان اليهود امتدوا خارج حدود المدينة القديمة، وكانت آثارهم موجودة في حارة السيدة، وقرب حارة البرانية، المتاخمة لسوق القمح. وبعضهم عاش في "زقاق العصافير" الموجود امام مدرسة الروم في الزاهرية، وكانوا يبيعون العصافير المربوطة للأطفال بفرنكات"، مشيراً الى ان آخر عائلة تركت طرابلس هي عائلة مزراحي في 17 كانون الثاني من العام 1966، موضحاً ان "اسماء العائلات اليهودية، وافرادها، ذكوراً وإناثاً، كانت ترد في جداول القوائم الانتخابية حتى العام 1968. ولديهم اقلام اقتراع موزعة في الزاهرية والتل، وكانت هناك 50 عائلة لا تزال في طرابلس في بداية الخمسينيات".
ويوضح منجد، الذي يعمل على بحث سيشمله كتاب يصدر قريباً، ان "اليهود حافظوا على معابدهم وبيوتهم وزينوها بنجمات داوود، وكانت آخر نجمة موجودة في حارتهم، لكنها طمست عقب نشوء حركة التوحيد. كانت النجمة فوق مدخل مسجد شرف الدين، الذي حوله الشيخ سعيد شعبان، أمير الحركة الى مقر لها. ويقال ان النجمة ازيلت خوفاً من التعرض للمكان".
ويروي منجد ان انتقال اليهود من طرابلس الى زغرتا بدأ بسبب مضايقات مارسها البعض عليهم في اعقاب نكبة عام 1948، مؤكداً ان بعض هذه العائلات تحول الى المسيحية وسكن منطقة المزارع، في قضاء زغرتا، "لكن لا دلائل ان كثراً منهم اعتنقوا المسيحية كما اشيع".
ويروي منجد حكاية عائلة مزراحي اليهودية التي كانت مضرب مثل بأمانتها واستقامتها وحسن علاقاتها مع الجميع، وانسجامها مع المجتمع الطرابلسي. مما جعل المسلم يعتبر هذه العائلة عائلة مسلمة، والمسيحي يعتبرها مسيحية. مؤكداً أن "داوود مزراحي تلقى أمراً بمغادرة لبنان الى البرازيل، حيث اجتمع هناك بأعضاء الوكالة اليهودية، وتمكنوا من اقناعه بترك لبنان والمجيء الى اسرائيل، ووضعوا له خطة للحصول على أكبر قدر ممكن من الأموال والهرب بها".
وهذا ما رواه الاديب الطرابلسي رياض دبليز في كتابه "ساعة طرابلس، إن حكت"، مؤكداً ان "داوود مزراحي لما عاد الى طرابلس، وكان ذلك في أواخر عام 1965، أسّر لأفراد عائلته بما حصل له، ورسم لكل واحد منهم خطة التحرك، وبدأوا التنفيذ بكل دقة وبراعة. ولعل أمانتهم التي اشتهروا بها، وصدق تعاملهم مع الجميع، ساعداهم كثيراً في ابعاد أي شكوك حول ما يطلبون فاغتنموا هذه الثقة، وراحوا يحصلون على المال بكل وسيلة ممكنة، فاستقرضوا من هذا واستدانوا من ذاك، واخذوا من آخرين مبالغ بغية تشغيلها لهم، وراحوا يغزون المتاجر ويشترون البضائع المختلفة ليبيعوها في بيروت، كما كانوا يشترون بضائع من بيروت، على الحساب، ويبيعونها في طرابلس، وتمكنوا أيضاً من حسم سندات كثيرة في مختلف المصارف، ولم ينسوا ان يغزوا محلات الموبيليا، اذ اشتروا بالتقسيط العديد من غرف النوم والصالونات وغرف الطعام من هنا وهناك، ليأخذوها ويبيعوها في بيروت. وفي كانون الثاني من العام 1966، أخذ جيران آل مزراحي العجب من عدم حضورهم الى محلاتهم، في شارع الجميل، والتي ظلت مغلقة أياماً عدة، دون أن تفتح أبوابها. فذهب البعض الى منازلهم للاطمئنان عليهم، فوجدوا ملابسهم منشورة على الحبال كالعادة، والنوافذ مفتوحة، امعاناً في التمويه والتضليل. ولم يطل الأمر حتى اكتشف ضحايا آل مزراحي الخدعة التي وقعوا فيها، ولكن بعد أن اصبحت العائلة جميعها في اسرائيل".
ويشير منجد إلى أنّ "إيلي ابن داوود مزراحي كان يعمل في اذاعة جيش الدفاع الاسرائيلي ولديه برنامج يومي موجه باللغة العربية، وكان يرسل عبره تحايا الى معارفه من الطرابلسيين بالاسماء، ويتذكر علاقته الطيبة معهم، وكل ذلك في اطار الدعاية الاسرائيلية".