كتابات السياسات السائلة

أحمد جابر
السبت   2024/09/28
المبادرة مطلوبة سريعاً، لكي يكون للوطن المدمّى، هذا اليوم التالي المرغوب (علي علوش)
 

الوضع اللبناني الصعب، استدرج كتابات سائلة. سيولة تفسير، وسيولة تعليل، وسيولة خلاصات.

تتحرك الكتابة السائلة على هواها. هي بلا مجرى وبلا ضفاف وبلا مصبّ أخير. هي تتحرك فقط، لأنها إذا توقفت ركدت، ثم حلّ بها الأسن، ثم تبخّرت.

الكتابة السائلة ليست مسؤولة إلا عن ذاتها، وهي تتوسّل عناوين كبرى تتفرع وتتعدد، لتعود إلى "بيان" مضمر مبناه ومعناه، الذاتية غير المسؤولة.

ليس مستغرباً ولا غريباً، الإعلاء من شأن صاحب الذات لذاته، وليس مستنكرًا ولا مرذولًا، تأكيد "الفرد" على حريته الفردية، وعلى حقّه الطبيعي في ممارستها ضمن فضاء حرّ... لكن انتقال الثبات في السياسة، من الأحكام الفردية إلى حركة إسقاط خلاصاتها على العموم إسقاطًا قاهرًا، ينقل النقاش إلى المواضيع التي يعرضها الفرد عرضًا توصيفيّاً، أو كممرٍّ خلاصيٍّ إجباريٍّ، يفوز بالنجاة من اتّبَعَه، ويسقط في وِهَادِ "الآثام" من حَادَ عنه، ومن ضلَّ عن سبيله.

إذن، ولأن الحديث حديث الواقع اللبناني الذي يرزح تحت وطأة قضاياه، ماذا عن العناوين التي صارت مادة للكتابة السائلة، ومداداً لذاتيّات وفرديّات، دَلَقَتْ "وَصْفَاتِهَا" التحليليّة على الشاشات، بكثير من الحماس، وبقليل من التدقيق المسؤول.

عودة غير مطوّلة إلى أصل الصورة السياسية الحالية، القريب، تسمح بنقاش ملموس، للعناوين الخلافية الجديدة، وتسمح بإعادة ربط مواضيع الخلاف الكامنة والمؤجلة، بما صار مواضيع نقاش راهن على صفحات اليوميّات. في السياق أعلاه، من المجدي الوقوف على العناوين الآتية:

1- عملية طوفان الأقصى:
لقد بات واضحًا، بعد سنة من عمر معركة طوفان الأقصى، أن من رسم وقرّر نقطة بداياتها لم "يتخيّل" مسار تطوراتها، ثم أغرق طوفانها قدرته على وضع نقطة ختام لنهاياتها. لقد محت الأيام الطوال الأهداف الأولى للعملية الهجومية الفلسطينية، وبعد أن تداعت الآمال المعقودة على المفاجأة "الفلسطينية"، نقل السياسي تصويبه على أهداف جديدة لم تكن من بنود الخطة الأصلية.
للنقاش وللتذكير، انقلبت حركة حماس على السلطة الفلسطينية في غزة، ثم أقامت حكمها الخاص فيها.
وللتذكير أيضًا، أن التنافس على السلطة بدأته حماس ضد الرئيس الراحل ياسر عرفات، من خلال عملياتها "الانتحارية"، فكانت لها حرية الحركة، وكان لياسر عرفات العزل المتمادي... حتى استشهاده.

ربط المحطات ربطاً سياسيّاً، يعيد تكوين الصورة الفلسطينية العامة، فيسمح بربط طوفان الأقصى بطموح حماس إلى استكمال الفوز بالتحكم بالقرار الفلسطيني، بعد قطاف جنى الهجوم من غزة، سياسيّاً وشعبيّاً وحضوراً في المعادلة العربية والإقليمية العامة.

لقد افترضت المقاومة الفلسطينية نجاحاً لها، قوامه عدد من الأسرى الاسرائيليين، يشكلون مؤونة هامة، لإطلاق سراح أسرى فلسطينيين، وعليه، يتسع مدى النفوذ "المقاوم" ويتمدد نفوذه في القاعدة الشعبية...

إذن، ما تردد، وما يزداد تداوله، عن أن عملية "الطوفان" كان هدفها وقف التطبيع الإسرائيلي مع عدد من الدول العربية، والتذكير بالقضية الفلسطينية، ومنع القفز من فوق مطالب وحقوق شعبها... كل ذلك، كان من الاستدراك السياسي الذي لم يكن حاضرًا في بال من قرر الهجوم الطوفاني، ومن أشرف على تنفيذه.

2- الموقف الإيراني:
بعد كل ما قدَّمته اليوميّات الفلسطينية واللبنانية، في المواجهة مع إسرائيل، بات الموقف الإيراني مكشوفاً لا تستره "النضاليّة" الجهادية، ولا تعينه "الثورية" الإسلامية، ولا تنال من حساباته المصلحيّة، كل الشعارية المناوئة "للاستكبار" العالمي، أو "للاستصغار" الإسرائيلي.

من الطبيعي والمفهوم، أن تتصرّف إيران كدولة لها مصالحها ولها حساباتها، ومن الطبيعي أن تسعى إلى حشد المواد الضرورية التي تسمح لها بتحقيق هذه المصالح. في مقابل ذلك، ليس طبيعيّاً وليس مفهوماً، التسليم بالشعارية الإيرانية، أو ركوب مركب التبشير بالتحالف معها، من قبل تنظيمات فلسطينية ولبنانية وعربية. مصطلح التحالف ينطوي على معادلة تكافؤ، أو معادلة توازن مصالح، أو معادلة وضع مصالح الحليف موضع اهتمام... ما هو في الحوزة، يخالف واقع المعادلة التحالفية، وهو إلى واقع التوظيف السياسي الذي يرجّح الكفّة الإيرانية، ويضيف إلى مثقالها.

الواقعي الذي لا تخطئه عين، هو أن الموقف الإيراني وصل إلى نقطة "القيد" الذي لا يستطيع حامله التحرك بيُسر وسلاسة. تعرض شاشة الراهن فراغ لغة التهديد. وفراغ لغة الاستعداد للتصدي، وفراغ الإسناد المباشر... والوقوف في مربع الدعم غير المباشر "لفظاً"، وعلى صعيد التذخير والتسليح حيث تسمح الظروف، وحيث لا تصل "العين" الإسرائيلية، أو حيث تغض الطرف "العين" الأميركية.

للتذكير، ما كان ضد الاستكبار، كان فبان عن طلب تفاهم معه، وما كان ممنوعاً طرحه في ميدان الكلام، صار معروضاً للنقاش، من السعي إلى السلام والابتعاد عن الحروب، إلى علاقة "الأخوة" وما تقتضيه من فتح ملف الطموحات النووية. تكراراً، هذه حسابات دولة، ومسالك مصالح، وتكراراً يطرح السؤال: هل كان مطلوباً تحويل أكثر من بلد عربي إلى ساحة مستباحة، و"الدولة" تجدّ في طلب مصالحها؟ وهل بات ملموساً الآن، أن الممرّ إلى مواجهة الاستكبار والاستصغار لا يكون بتشتيت الجهد "الإسلامي"؟ وأن الدعوة إلى الوحدة وحسن الجوار ومعاهدات المصالح المشتركة، تشكل مجتمعةً عوامل لبناء قواعد صمود مشتركة في الصراع مع "أعداء الأمة"؟؟

تاريخ العلاقة مع إيران ما زال "واقفاً على رأسه"، هذا للنقاش، بصفته واقع الحال، فهل ما زال المطلوب العمل من أجل أن يقف هذا التاريخ "على قدميه"؟ الجواب ملحٌّ في الراهن، وهو ملحّ من أجل المستقبل، هكذا من دون قيد الفكرة السابقة، ومن دون قيود الأفكار اللاحقة.

لبنان الداخلي:
الكلام الهادئ في سياق الوضع الملتهب صعب، لكن هذا الأخير يملي هدوء الوضوح والمسؤولية.

الموقف الذي يجب تدقيقه، هو الموقف من شكل الانخراط الحربي الحالي الذي انساق، أو سِيقَ إليه لبنان. يتناول التدقيق عنوان الدخول في الاشتباك ومساره ومآله الحالي الذي بلغه، لقول رأي في ما بقي "حيّاً" من مبررات التدخل اللبناني إسناداً للجهد الفلسطيني.

في البدء غزّة، فهذه بعد سنة من الحرب باتت في وضعية احتلال، وما هو مستمرٌّ فيها، عمليات قتالية فدائية، قد تكون مفتوحة الأفق على حلّ بلا صلة انتساب بأهداف العملية الطوفانية.

واقع الحال المشار إليه، يطرح سؤال ما الذي يجري إسناده اليوم؟ وأي انتصار موعود ينتظر من يرفع لؤاءه؟ وما شكل هذا النصر؟ وما هي معاييره؟

باختصار يستدعي العودة إليه مراراً: تعريف أصحاب الشأن اللبنانيين للنصر، لا يلقي موافقة أكثر من نصف اللبنانيين، لذلك من واجب "المقاومة اللبنانية" القيام بمراجعة لشعاراتها وسياساتها وأدائها. هذا على وجه العموم، أما على وجه خاص، فإن المهمة التي لا تتقدم عليها مهمة أخرى، هي عدم السماح بأخذ لبنان إلى حرب واسعة، فهذه حرب يسعى إليها العدو، مستغّلاً تفوقه العسكري، ومستغلاًّ التغطية الدولية، خاصة الأميركية، التي ترى في كل أعمال العدوان الإسرائيلي دفاعاً للكيان العبري عن نفسه!!

منع الخراب من النزول في الديار اللبنانية، واجب المقاومة وواجب اللبنانيين، لذلك، ومن دون سيولة كلامية، ينبغي على المجموع اللبناني المعترض على سياسات المقاومة، والمعارض لنشاطها، أن يبادر إلى إعلان الشراكة الجدّية في صياغة القرار اللبناني الجديد، الذي يساهم في إنقاذ "الكيانية" وتجسيداتها، بعيداً من منطق الغلبة، وبعيداً من منطق الاستعلاء، وبعيداً من أحادية القرار والتفرد بأخذ مصائر اللبنانيين إلى حيث لا يرغبون، قسراً وقهراً. استطراداً، إن صمت أكثرية لبنانية في هذا الموقف العصيب، سببه الأول أن طرف الاشتباك الثاني هو العدو الإسرائيلي. هذا يخضع لجواب السؤال عن المستفيد في حال اندلاع الفرقة بين اللبنانيين. في حالتنا المستفيد عدونا، وعليه، فإن الجواب يطلب من المقاومة مثلما يعطيها، وعلى المقاومة أن تمد اليد إلى كل الذين ما زالوا يمدون إليها يد الصفات اللبنانية.

ماذا عن اليوم التالي، يطرح سؤال ماذا عن التمهيد الآتي لليوم التالي. المبادرة مطلوبة سريعاً، فالسرعة ضرورية، لكي يكون للوطن المدمّى، هذا اليوم التالي المرغوب.