بعد نصرالله.. ما مصير لبنان؟
قُتل حسن نصرالله بأطنان من المتفجرات زلزلت بيروت وضواحيها. إنها مصيبة جديدة تنزل كالصاعقة على البلاد وتهزّها بعنف حتى الأعماق.
ومع هذا الاغتيال تتعاظم الخسائر المتوالية على حزب الله، كما تتعاظم كارثة الحرب على لبنان، المرشحة لأن تمتد زمناً خرائبياً ومأسوياً، قد لا يحتملها هذا الكيان الهش والمفكك الأوصال.
هذا الاغتيال مخيف كما كل مرة يُقتل فيها زعيم من هذا الوزن. من اغتيال كمال جنبلاط إلى بشير الجميل إلى رفيق الحريري.. على الفور نصبح على شفا حرب أهلية، أو ندخل نفقاً مظلماً مليئاً بالدماء والدموع.
هذا بالضبط بعض ما تأمله إسرائيل الآن، أن تتوج مجهودها الحربي بصدام أهلي أو طائفي أو مذهبي. فتنة تنفلت فيها الغرائز، ليغرق لبنان وحزب الله في أكثر من حرب في آن واحد.
القصد في هذا الاغتيال تعميق الشعور بالهزيمة، وتعميق اليأس، وتعميق الخوف.. وتغذية المشاعر الحادة والمتطرفة والمتناقضة بين جميع المكونات اللبنانية.
قتل الأمين العام لحزب الله لم يأت كحدث منفرد، بل هو واحد من أفعال حرب شرسة تبدو الاغتيالات بنداً استراتيجياً فيها، وهدفها "استئصال" أقوى حزب مسلح في العالم، متواجد في واحد من أضعف بلدان العالم.
إنها حرب من نوع لم نعرف مثيلاً لها طوال تاريخ الصراع مع إسرائيل. وتبدو أنها تجمع "مميزات" كل نقاط قوة إسرائيل في الحروب السابقة، مضاف إليها "ابتكارات" مروعة.
الأخطار مهولة، وتضاعفت بعد هذا الاغتيال، ليس فقط بسبب المخاوف من وحشية إسرائيلية مرشحة لأن تتحول إلى غزو برّي، مع مزيد من التدمير الشامل والتهجير الواسع، بل أيضاً بسبب تورم الضغائن، واحتقان المشاعر، والرغبات بالثأر.
قُتل نصرالله، والحرب مستمرة وربما ستتمدد وتتعاظم. حرب لم يرغبها السواد الأعظم من مواطنينا. مع ذلك، وقعنا فيها رغم كل الجهود والمناشدات والمحاولات السياسية والديبلوماسية. أشهر مديدة من التحذيرات والنصائح والتهديدات الجدّية لم تُجدِ نفعاً.
الحرب أتت، واللبنانيون بلا حماية ولا ردع ولا سند. لا رئيس للجمهورية، لا حكومة أصيلة، لا مجلس نيابي فاعلاً.. لا دولة ولا اقتصاد ولا وفاق وطني. والأسوأ، لا سياسة ولا حياة سياسية بعد مصادرتها وخنقها.. وأحياناً تخوين كل من يطالب بها. لا حياة دستورية، ولا سلطة منتخبة، ولا إرادة جامعة وقادرة. وهذا ما يجعل الحرب أشد تدميراً والويلات أكثر مأسوية وربما أكثر فاعلية في تدمير آخر ما تبقى من مقدرات البلاد.
الحرب أتت في لحظة انقسامات عميقة، سياسية واجتماعية وطائفية ومناطقية، تكاد تكرس اليأس في النفوس.. وهذا ما قد يزيد من خطرها على وجود لبنان كدولة وكشعب.
لذا، إن أولى واجباتنا اليوم، هو العمل فوراً من أجل هدفين مباشرين:
أولاً، وقف الحرب بأسرع وقت ممكن.
ثانياً، أوسع تضامن من كل اللبنانيين مع كل اللبنانيين، إيواءً واحتضاناً وإغاثة ورعاية وحماية.
في الهدف الأول وقف التدمير والتهجير. وفي الهدف الثاني تأكيد الوحدة الوطنية والمصير الواحد.
أما الهدف الثالث والمصيري، فهو إنقاذ لبنان.
ما رأيناه على امتداد الأيام الماضية من مظاهر التطوع والتبرع واللهفة والمساعدة والعون، بلا تحفظ ولا منة، من قبل كل الأطياف الاجتماعية، تجاه المصابين والنازحين والمفجوعين، يبهج قلب كل لبناني ويحيي بديهياً الإيمان بقوة الهوية اللبنانية وحقيقتها الساطعة عند كل محنة وامتحان. وهذا ما يسهّل كثيراً تحقيق وتظهير "الوحدة الوطنية" بمعناها العياني والملموس.
لكن هذا ليس وحده كافياً، فمن الضرورة القصوى أن تتولى الحكومة وأجهزتها ومؤسساتها، القيام بواجباتها كاملة تجاه الجرحى والمنكوبين والنازحين. فلا المبادرات الأهلية والمدنية بديلة عن الدولة، ولا قدرات وأجهزة الأحزاب. الدولة بوصفها المؤسسة الأم، وبصفتها "الشرعية" وحدها مناط بها حماية وصون مواطنيها.
والدولة الواحدة الموحِّدة، وحدها هي من يجب أن يتولى مهمة تحقيق الهدف الأول: وقف الحرب.
ومن أجل ذلك، حان وقت أن لا يكون هناك شريك "مضارب" لها، ولا معطِّل لدورها، ولا صاحب "فيتو" يتفوق عليها.
حان وقت العودة إلى المصلحة اللبنانية العليا، التي تعني حفظ السيادة والحدود والأمن والسلم. وما على الديبلوماسية اللبنانية إلا أن تتصرف وفق هذه المصلحة، بتفويض كامل من قبل جميع الأطياف السياسية بلا أي تعجيز، سعياً إلى وقف إطلاق النار فوراً، والالتزام ببنود القرار 1701 والقرارات الأخرى ذات الصلة، والاهتداء بالمبادرات التي تقدم بها أصدقاء لبنان في الشهور الماضية.
إن الديبلوماسية اللبنانية التي خذلتنا في الآونة الأخيرة، مطالبة أن تتحرر من القيود والإملاءات، وتستعيد بوصلتها الصحيحة، أي العمل من أجل لبنان.
إن خريطة الطريق لوقف هذه الحرب واضحة، وبإمكان رئيسي الحكومة ومجلس النواب العمل سوياً للمضي فيها، بدعم كل الكتل النيابية.
أما الهدف الثالث والأصعب، فهو إنقاذ لبنان.
آن الأوان، لنتعلم من دروس 1969، 1975، 1978، 1982، 1993، 1996، 2006.. واليوم 2024. كل مرة يستفرد طرف أو تقرر جماعة الخروج على الدولة واستباحة الحدود والسيادة، والاستفراد بتقرير المصير، تكون النتيجة كارثة على العمران، ومأساة على البشر، وتمزيقاً لوحدة البلاد، وتحطيماً للسيادة وتفريطاً بالاستقلال، وتبديداً لتعب أجيال، وخسارات لا تعوض، وتأخراً لا يُستلحق، وموتاً عميماً، وهزائم لا تُمحى.
آن الأوان لنوقف تكرار التاريخ على نحو فادح في تراجيديته. وقد تكون فرصتنا الأخيرة كي يبقى للبنان مكان تحت الشمس كوطن ودولة.
من أجل ذلك، لا مناص من العودة إلى ما اتفقنا وتوافقنا عليه مرارا: الدولة السيدة، دولة الدستور، دولة الديموقراطية.
إن إنقاذ لبنان يتوقف الآن على قرار الشجعان، وهم الذين أثبتوا شجاعتهم كثيراً.. وها هو الامتحان الأخير: الولاء للشعب اللبناني فقط، وللدولة اللبنانية وحدها وللهوية اللبنانية دون سواها.
إن تاريخ لبنان الناصع كان حين ساند حقاً كل القضايا العربية، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية. لكنه خسر قدرته على الإسناد الفعلي والمجدي حين تحول "ساحة" مستباحة و"جبهة" فالتة ودويلات وفيدراليات وميليشيات، وخسر دولته واقتصاده وجامعاته وحرياته وأمنه ومؤسساته.
آن أوان "المراجعة" من الجميع، وفي مقدمتهم أصحاب السياسات التي أفضت إلى ما وصلنا إليه.
إنها لحظة مصيرية، نستلهم فيها مظاهر الوحدة الوطنية، لنبادر إلى البحث عن ترجمة حقيقية لها في السياسة، سعياً للبحث عن نجاة لبنان، كل لبنان.