"سفر خروج" أهل الجنوب
18 ساعة كافية لتصل من بيروت إلى كاليفورنيا أو سيدني. 18 ساعة تكفي للانتقال من القطب الشمالي إلى القطب الجنوبي.
من فجر الاثنين إلى فجر الثلاثاء، حدث "الخروج" المهول والمذِّل والبائس والقاهر لنحو مليون مواطن دفعة واحدة. 18 ساعة على الأقل قضاها الجنوبيون ليقطعوا مسافة لا تتعدى 80 كيلومتراً.
الرحلة الجهنمية لـ"شعب" فقد في ساعات موطنه وأرضه وبيوته وممتلكاته، وحاصره الموت والرعب، كانت ملحمة لا خرافات فيها ولا بطولات. ملحمة الخسارات والعطش والنوبات القلبية وذعر الأطفال وتوليد النساء في السيارات.. والمجهول الذي ينتظرهم، والغرق في مشاعر الخذلان والتيه.
كانوا وحدهم بلا دولة ولا حزب.. في يوم التخلي الكبير، وبلا أوهام.
كانوا هكذا في العراء محاصرين بالنار، محاصرين بهمجية الحرب، التي تأتيهم للمرة المئة، وتتكرر كصخرة سيزيفية.
في هذه الرحلة، تأكد أهل الجنوب مرة جديدة أن لا أحد مسؤولاً عنهم، لا أحد يحميهم، لا أحد يحفظ حياتهم، لا أحد يصون دماءهم. كانوا مجدداً مستباحين للقتل والقسوة والتشريد.
من الفجر إلى الفجر، كان السبي.. كانت الكارثة. والخرافات السياسية لا مكان لها في صرّة الملابس، والحقائب والجيوب وصناديق السيارات.. ولا في دفاتر الأطفال، ولا حتى في الأفواه التي جففها الظمأ.
شعب قومر به، ورمي على قارعة الطريق، ليكون صورة تلفزيونية مخزية، يتفرج عليها العالم بلامبالاة، أو بشفقة جارحة.
هكذا يعود الجنوبيون إلى تراجيديتهم، بإرادة وتعمّد وعن سابق تصور وتصميم. إرادة تريدهم منذورين جيلاً بعد جيل للفجائع والموت وخرافات "الارتقاء" و"سعادة الاستشهاد".
سقطت الخرافات في 18 ساعة تاريخية، حين خرج الواقع بكل عنفه واندلق كحقيقة فادحة: أهل الجنوب بشر يحبون الحياة لأنفسهم ولأولادهم، يعملون ويشقون من أجل مستقبل أفضل وآمن، من أجل عيش كريم وهانئ. بشر دمهم ليس رخيصاً ولا متبرعاً به للعبث.
في تلك الساعات الجهنمية، تمسك الجنوبيون حتى آخر رمق برغبتهم بالحياة والنجاة، كما يليق بالبشر وبكرامة البشر وحقوق البشر. يأبون الجوع والعوز والتشرد والألم.
آن أوان السؤال والمساءلة والمراجعة الكبرى، كي لا يظلوا هكذا صورة للعذاب المجاني والموت المجاني.