رحلة "العرّاب" سلامة القضائية: كشفته سويسرا ولاحقته أوروبا كلها

فرح منصور
الإثنين   2024/09/16
اتهم سلامة باختلاس مبلغ 42 مليون دولار من المصرف المركزي (علي علّوش)
على مدى ثلاثة عقود متواصلة، عُرف حاكم مصرف لبنان السابق، رياض توفيق سلامة (74 عامًا)، أنه "عرّاب" استقرار الليرة اللبنانيّة، ومهندس السياسات الماليّة في لبنان. لسنوات طويلة، حظي سلامة بغطاء سياسي متين، وبدعم دوليّ، وتحوّل إلى شخصية بارزة لا يُمكن التخلي عنها أو حتى استبدالها بأي شخصية أخرى.

حصد الجوائز والأوسمة، كأحد أفضل حكام المصارف المركزية في العالم. ومع بدء الانهيار الاقتصادي في لبنان في العام 2019، انهارت صورة الحاكم بصورة تدريجيّة، وتحوّل إلى مطلوب للمحاكم الأوروبية والمحليّة بعد اتهامه بجرائم فساد ماليّة متعددة.

تحرّك القضاء السويسري
وُجهت أصابع الاتهام لسلامة للمرة الأولى في كانون الثاني العام 2021، بعد أن أقدم القضاء السويسري على فتح تحقيقات بالتعاون مع الاتحاد الأوروبي على خلفية تحويلات ماليّة تطال كل من الحاكم، وشقيقه رجا سلامة (صاحب شركة فوري الوهمية)، ومساعدته المصرفية، ماريان الحويّك، وطُلب من القضاء اللبناني التعاون مع القضاء السويسري في هذه القضية.

التحقيقات الأولية في سويسرا كشفت عن عملية تبييض أموال قُدرت بحوالى 300 مليون دولار أميركي، حُولت من المصرف المركزي إلى حساب رجا سلامة المصرفي، وتوسعت التحقيقات حول التحويلات المصرفية المشبوهة، وحُجزت أصول سلامة في سويسرا التي كانت تقدر بملايين الدولارات.

وازداد ملف سلامة دسامةً، بعدما قررت بعض الدول الأوروبية التعاون مع القضاء السويسري، وبدأت تتقصى حركات سلامة المالية والعقارية في فرنسا، ألمانيا، لوكسمبورغ، لندن، الولايات المتحدة الأميركية وبلجيكا، بعد اتهامه بـ"اختلاس المال العام، التزوير، الإثراء غير المشروع، والتهرب الضريبي".

التحقيقات الأوروبية
في بيروت، باشر المحامي العام التمييزي، القاضي جان طنوس، بتحقيقات موسعة في قضية سلامة، وجرى استجوابه. وازداد الخناق على سلامة، وبدأت النائب العام الاستئنافي في جبل لبنان، القاضية غادة عون بملاحقته، ومن ثمّ استدعى إلى النيابة العامة التمييزية أيضًا التي باشرت بالتحقيق في 6 جرائم مالية ومن أهمها: "الاختلاس، تبييض الأموال، استعمال المزور، الإثراء غير المشروع، التهرب الضريبي"، وحددت جلسات لاستجوابه.

في كانون الثاني العام 2023، حضرت الوفود الأوروبية المؤلفة من قضاة من ألمانيا وفرنسا ولوكسمبورغ، ومحققين دوليين إلى بيروت، للتوسع بقضية سلامة وعائلته، واستمعت إلى مجموعة من أصحاب المصارف وأبرزهم:

- سعد العنداري (شغل منصب النائب الثاني لحاكم مصرف لبنان بين عامي 2009-2019).

- خليل آصاف (عضو سابق في لجنة الرقابة على المصارف ومدير التفتيش في المصرف المركزي).

- مروان خير الدين (المدير العام لبنك الموارد- وزير سابق).

- أحمد جشّي (النائب السابق لحاكم مصرف لبنان).

- بيار كنعان (مدير الشؤون القانونية في مصرف لبنان).

- سمير حنا (المدير العام ورئيس مجلس الإدارة في بنك عودة).

- الوزيرة السابقة ريّا الحسن (المدير التنفيذي ورئيسة مجلس الإدارة في بنك البحر المتوسط).

وفي 23 شباط 2023، ادعى المحامي العام الاستئنافي في بيروت، القاضي رجا حاموش على الحاكم وشقيقه رجا، ومساعدته ماريان الحويك، بجرائم التزوير واختلاس الأموال العامة، ومخالفة القانون الضريبي، تبييض الأموال والإثراء غير المشروع، وأحيل الملف إلى قاضي التحقيق الأول في بيروت آنذاك، القاضي شربل أبو سمرا.

وفي آذار العام نفسه، حضرت الوفود الأوروبية لاستكمال تحقيقاتها، واستمعت إلى سلامة وشقيقه والمساعدة الحويك، وتابع القضاء اللبناني ملف سلامة بعد ادعاء النيابة العامة التمييزية عليهم. لكنّ الملف لم يتقدم أبدًا، فرئيسة هيئة القضايا في وزارة العدل، القاضية هيلانة اسكندر تقدمت بدعوى مخاصمة، اعتراضًا منها على المسار القضائي المُعتمد خلال التحقيق مع سلامة، وحوّل الملف للهيئة الاتهامية. وقام سلامة بمخاصمة جميع القضاة، فتجمد الملف حتى تاريخ كتابة هذا التقرير.

في باريس، استمعت القاضية الفرنسية أود بوروسي لمروان خير الدين، وألزمته بالتقيد بإجراءات قضائية محددة، ومنعته من التواصل بشكل قاطع مع عائلة سلامة، ومن العودة إلى بنك الموارد، إلى حين انتهاء التحقيقات الفرنسية. وذلك مقابل إخلاء سبيله والسماح له بالعودة إلى بيروت.

وعادت الوفود الأوروبية إلى بيروت لإنهاء المرحلة الثالثة من التحقيقات الأوروبية، وتتضمن استجواب شركاء الحاكم والأيادي التنفيذية لعمله داخل المصرف، وأهمهم:

- يوسف الخليل (وزير المالية، والذي شغل منصب مدير العمليات المالية داخل المصرف المركزي).

- أنطوان غُلام (المدقق المالي، صاحب شركة غلام الموكل إليها التدقيق في حسابات مصرف لبنان).

- رجا أبو عسلي (مدير التطوير والتنظيم في المصرف المركزي).

توسعت التحقيقات، وبدأت 13 دولة بملاحقة سلامة في أوروبا، وجمّدت حساباته، ووضعت اليد على عقاراته. وتمكّن القضاء الألماني وحده من تجميد أكثر من 25 مليون يورو من عقارات سلامة.  

إصدار
مذكرات توقيف دولية
وخوفًا من إصدار مذكرة توقيف وجاهية بحقه، تغيّب سلامة عن جلسة استجوابه داخل المحكمة الفرنسية، فأصدر القضاء الفرنسي في 16 أيار العام 2023 مذكرة توقيف دولية بحقه، عممت بالنشرة الحمراء لدى الإنتربول الدولي. وبعد وصول النشرة الحمراء إلى النيابة العامة التمييزية، حددت جلسة لاستجواب سلامة، لإبلاغه بمضمون النشرة الحمراء، وتمت مصادرة جوازات سفره. لكن السلطات اللبنانية رفضت تسليمه للسلطات الفرنسية، تحت حجة أن القانون اللبناني "لا يسمح بتسليم أي مواطن لبناني إلى دولة أخرى، إنما تجرى محاكمته على الأراضي اللبنانية فقط".

التحقيقات الأوروبية لم تتوقف، وفي 23 أيار العام 2023، صدرت مذكرة توقيف دولية ثانية من القضاء الألماني بحق سلامة. وفي تموز العام 2023، استمع القضاء الفرنسي في باريس لماريان الحويك واتهمها بتشكيل عصابة أشرار وتبييض الأموال.

كثّف القضاء الألماني زياراته إلى قصر عدل بيروت، رغبة منه بالحصول على مستندات من مصرف لبنان، وطلب بشكل واضح مداهمة مصرف لبنان للحصول على الأوراق والمستندات الموجودة بداخله. وذلك بعد تهرب هيئة التحقيق الخاصة بمصرف لبنان من تقديم أي مستندات للقضاء الأوروبي أو المحلي. ورفض القاضي أبو سمرا طلب السلطات الألمانية، بحجة أنه "تعدٍ واضح على السيادة اللبنانية".

وكشفت نتائج التدقيق الجنائي الذي أعدته "ألفاريز أند مارسيل" فضائح سلامة وأعوانه داخل المصرف المركزي. وفُتحت تحقيقات داخل القضاء اللبناني بمضمون هذا التدقيق. ولكن لم يتخذ أي إجراء بحق سلامة فيما يتعلق بهذه القضية.

وفي 31 تموز انتهت ولاية سلامة، وبحقه مذكرتي توقيف دولية. واختفى بشكل تام، ولم تتمكن الأجهزة الأمنية من إبلاغه بموعد جلساته داخل القضاء اللبنانية بحجة "عدم العثور عليه".

تجريد سلامة من الحصانة
في تشرين الثاني العام 2023، بدأ الانقلاب الداخلي على سلامة، وقررت هيئة التحقيق الخاصة تزويد القضاء اللبناني بناقلة بيانات تحتوي على تفاصيل متعلقة بحسابات سلامة المصرفية. كما تعاون القضاء الأوروبي مع القضاء اللبناني، وزوده بمعلومات حول حسابات سلامة المصرفية في أوروبا، وسلّمه عشرات المستندات التي تضم معلومات تفصيلية حول الحاكم السابق، وشقيقه، ومساعدته.

وفي آذار العام 2024، بدأت الملاحقة الأوروبية تطال جميع أفراد عائلة سلامة، وانضم إميل رجا سلامة إلى "عصابة الأشرار".

أما الخطوة المفاجئة التي غيّرت المسار القضائي في لبنان، فتمثلت بشهر تموز، حين اتخذ حاكم مصرف لبنان بالإنابة، وسيم منصوري، صفة الادعاء على سلامة أمام القضاء الفرنسي، وأصبح طرفًا مدنيًا إلى جانب الدولة اللبنانية التي تطالب سلامة بحقها من أمواله، وزود منصوري القضاء اللبناني بجميع المستندات التي طُلبت منه في السابق.

وفي آب العام 2024، ادعى القضاء الفرنسي على رجا سلامة بتشكيل عصابة أشرار. وفي الثالث من أيلول، استجوب سلامة داخل النيابة العامة التمييزية، وقرر النائب العام التمييزي توقيفه، بعدما تسلّم القضاء اللبناني مستندات من الهيئة الخاصة تدينه بتحويل مبلغ 42 مليون دولار أميركي من المصرف المركزي، وتمريره عبر حسابات مصرفية متعددة، وصولًا إلى حساب سلامة المصرفي.
وادعت النيابة العامة المالية بجرائم تبييض الأموال والإثراء غير المشروع واختلاس المال العام، وحول ملفه لقاضي التحقيق الأول في بيروت، بلال حلاوي الذي استجوبه وأصدر بحقه مذكرة توقيف وجاهية. وبانتظار صدور القرار الظني بحقه، يقضي سلامة أوقاته داخل زنزانة في مبنى قوى الأمن الداخلي.

وهكذا، تحوّل سلامة من أفضل خبير مالي ومهندس للسياسات الماليّة إلى "موقوف" بأكبر قضايا الاختلاس في تاريخ الدولة اللبنانية، وإلى مُلاحق دوليًا بجرائم مالية عديدة.