"المدن" في جولة على الخط الأزرق برفقة الكتيبة الإيطاليّة

بتول يزبك
الأحد   2024/09/15
قاعدة UNP 2-3 لقوات "اليونيفيل" الواقعة عند أطراف بلدة شمع، والّتي تديرها الكتيبة الإيطاليّة (خاص "المدن" - علي علّوش)
في ذلك الصباح، وعند الأوتوستراد السّاحلي الذي يربط صور بالناقورة، والممتد من بلدة "شمع" الجنوبيّة إلى قاعدة العمليات الأماميّة UNP 1-13 التابعة للكتيبة الإيطاليّة في قوات الطوارئ الدوليّة "اليونيفيل"، تشقّ المدرّعات الرماديّة طريقها، بخفّةٍ استثنائيّة. ماضيةً في سبيلها المتعرج، المُغبر والنائي، تحملنا السّيارات المُدرّعة، من المقرّ الرئيسيّ للكتيبة- المقرّ الغاصّ بالجنود من مختلف الجنسيات– إلى الخطّ الأزرق، الذي تحول مع ما يحيطه من القرى، إلى منطقةٍ عازلة (Buffer Zone)، يفور منها الحذر والوجوم.
الأصفر الشاحب، الذي ينخر المساحات الخضراء والبساتين المحروقة على امتداد أميالٍ من شمع للناقورة، الشاهد الوحيد على أن حياةً كانت هنا، قبل 11 شهرًا بالضبط. لا شيء آخر يدل على ذلك، ولا حتّى تلك البيوت -القليلة والمتناثرة عشوائيًّا على سفح التلة المقابلة للبحر– المتضرّرة والمهجورة من قاطنيها. حتّى شاطئ البحر الرمليّ، يبدو من بعيد مساحةً مهجورة، مُعسكرة، لم تطئها قدمٌ قط. أما اللطخات السّوداء التي تثقب الطريق (آثار الصواريخ)، وأبراج المراقبة المُحطمة والأعلام (أعلام حزب الله والأعلام الإسرائيليّة) الممزقة، والصوت البعيد لصافرات الإنذار، فكانت كلها دالة على الحرب. تلك الحرب الّتي لم نرها بأمّ العين، لكنها كانت هناك، متربصة بنا وبالناقورة المهجورة.

جولة مع "اليونيفيل"
كان الموعد لجولتنا مع قوات الأمم المتحدة العاملة في القطاع الغربيّ، برفقة الزميل المصوّر علي علوش، في قاعدة UNP 2-3 الواقعة عند أطراف بلدة شمع. حيث التقينا بالكتيبة الإيطاليّة (أكثر القوات عديدًا) الّتي تُدير أعمال قوات "اليونيفيل" في القطاع الغربيّ، الّتي تضمّ مجتمعةً 3500 من جنود حفظ السّلام، بينما تُدير القطاع الشرقيّ البعثة الإسبانيّة. يستقبلنا الكولونيل الإيطاليّ ماركو ميلي، عند البوابة الرئيسيّة بترحابٍ وحفاوة، لندخل بعدها إلى القاعدة الضخمة والمُحصّنة. عشرات من الجنود يطوفون في السّاحة الواسعة للقاعدة الّتي يتوسطها شعار الأمم المتحدة، وتتناثر على طول محيطها أعلام الدول المُشاركة في القوات، فضلًا عن العلم اللّبنانيّ. بينما تتوزع الرموز الإيطاليّة ومجسمات العذراء في كل حدبٍ وصوب، وخصوصًا "النافورة" الشهيرة، الّتي تتوسط قلب القاعدة، مضفيةً على الجوّ العسكريّ المنضبط، طابعًا من الدعة والشاعريّة.

بانتظار العربات وقوات الجيش المرافقة، يستقبلنا الجنود في غرفة الصحافة، يقدمون القهوة والحلويات الإيطاليّة، ويسألوننا بفضولٍ عن بيروت البعيدة عنهم وعن شعور "البيروتيين" تجاه اليونيفيل. دقائق قليلة، وحان وقت الإنطلاق. يصعد كل منا إلى عربته المُدرّعة، وتدور العجلات، بينما يتقدم موكب آليات "اليونيفيل" سيارةٌ للجيش، لم تتركنا طيلة الجولة.
يشرح الكولونيل ميلي، على امتداد الطريق طبيعة المنطقة، وفلسفة الخطّ الأزرق، وضرورة وقف النزاع، مشيرًا إلى أنّهم يقومون بكل ما هو ممكن لحفظ السّلام وتطبيق مندرجات القرار 1701. مُحدّدًا مهام اليونيفيل الثلاث: "مراقبة التجاوزات، دعم الجيش اللّبنانيّ، مساعدة السكّان المحليين"، يقول الكولونيل أن "الطرفين يرتكبان التجاوزات، ونحن نوثقها ونرسلها كما هي، نحن محايدون ودُعاة للسلام، تركنا بيوتنا وأوطاننا لنكون هنا في جنوب لبنان لحماية سكّانه وحفظ سلامه". يطرق بالتفكير، مُحدّجًا بشاطئ البحر "نقوم بالدوريات على امتداد السّاعة، لكن هل تدرين ما هو أكثر شيء مؤسف؟ إنّه الشاطئ، كنا نرى السكّان منذ بواكير الصيف يقصدون البحر، لكن البحر اليوم متروك، السكّان خائفون وقلقون. القلق هذا انسحب على كل شيء، حتّى البحر". يقول ميلي قوله، في محاولةٍ لتأكيد أنّهم محايدون بالفعل، بعد كل النقاشات والسّرديات الّتي حولت القوات الدوليّة إلى "متواطئٍ" لا يُرضي أي طرف (راجع "المدن").
في الوقت الذي تمرّ فيه المدرّعات في شوارعٍ تحدّها منازل بعض السكّان الّتي لا تزال مأهولة، يلوح الأطفال للقوات صارخين بتحيّة الـBonjourno، يبتسم الكولونيل فخورًا ليقول: "انظري كيف يحترمنا السكّان، يعلمون أننا هنا لحفظ السّلام"، ويردف بالإنجليزيّة المنكّهة بالإيطاليّة السّلسة: "إنها الطريقة الإيطاليّة لحفظ السّلام – The Italian way for peacemaking". نستغرب العبارة، الّتي انتهت الجولة على تأكيدها.

(موقع جلّ العلم- تصوير علي علّوش)

بعد نحو الأربعين دقيقة على انطلاقنا من قاعدة UNP 2-3، نصل إلى أطراف قاعدة العمليات الأماميّة UNP 1-13 التابعة للكتيبة الإيطاليّة، المحاذيّة لعلما الشعب المهجورة كليًّا من السكّان، والّتي تُشكل أكثر نقاط المواجهات سخونةً. مقرّ القاعدة الإيطالية محاذٍ مباشرةً لموقعٍ إسرائيليّ يقع عند آخر حدود علما الشعب، حيث يبان العلم الإسرائيليّ المنصوب فوق الموقع ممزقًا ومحروقًا. وموقع القاعدة الإيطالية الحساس جعلها مُعرضة للخطر الشديد. وهذا ما يبدو جليًّا في التجهيزات اللوجيستيّة والهيكليّة للقاعدة المُحاطة بالدشم الرمليّة.



(موقع إسرائيليّ عند حدود علما الشعب- تصوير علي علّوش)

ينتظرنا الجيش اللبناني خارج القاعدة الأماميّة الإيطالية الّتي كان يتواجد فيها حوالى الـ25 جندياً إيطالياً، ويجول بنا الضابط المسؤول داخل القاعدة. ندخل غرف العمليات، ونمرّ داخل الأقبيّة والغُرف المحصنة تحت الأرض، فيما يشرح لنا الضابط عن المراحل الثلاث للخطر وطريقة التعاطي معها. حيث كل قبو مُجهز لوجيستيًّا وبطريقة البناء وكذلك لناحية التجهيزات لمرحلة معينة للخطر من الـLevel 1 حتّى الـLevel 3 (أي مرحلة الخطر القصوى). ويُعرّفنا الضابط على أبراج المراقبة الّتي يتولى فيها الجنود مهمة المراقبة والرصد، ليُشير إلى أن كل تجاوز للخطّ الأزرق، ومن الطرفين، يُسجل ويُرسل إلى المقرّ الرئيسيّ في نيويورك.

في القاعدة هذه، يعيش نحو 20 عنصرًا بصورةٍ دائمة، وقد جُهزت لتوائم متطلبات عيش الجنود، حيث هناك غرف مُخصّصة للترفيه وأخرى مُخصصة للرياضة (Gym)، وغيرها من فسحات الطبخ والفرن الإيطاليّ المُعدّ لطهي "البيتزا" الإيطاليّة. والقاعدة تعتمد على نظام الـSolar System نهارًا للإمدادات الكهربائيّة، وليلًا تعتمد على المولدات الكهربائيّة. لكن المواجهات العسكريّة أدّت إلى تضرّر ألواح الطاقة الشمسيّة. وقد عاينت "المدن" آثار الدمار هذه الّتي لحقت بالألواح، فضلًا عن بعض التجهيزات الأخرى. وأشار الضابط المسؤول لـ"المدن" أنّهم "في عين الخطر، وهم معرضون للأضرار من الطرفين، الّتي عادةً ما تكون بسبب أخطاء عسكريّة وغير مقصودة".

وأشار ضباط الكتيبة أنه حسب التقييم الأوليّ لأكثر المناطق المتضرّرة، فإن القطاع الغربيّ هو أكثر القطاعات تضرّرًا. أما البلدات الأشدّ تضرّرًا مقارنةً بغيرها، فهي يارين، علما الشعب، عيتا الشعب، بيت ليف، يارون.

اللباقة الإيطاليّة: لطفٌ نادر في عين الخطر
ننهي مقابلة الضباط المسؤولين، ونستقل المدرّعات مُجدّدًا باتجاه قاعدة UNP 2-3، يُرافقنا مجدّدًا الكولونيل ماركو ميلي، الذي بدأ بالتصرف على سجيته، بعدما تأكّد من أن زيارتنا للقاعدة الأماميّة تمت بنجاح ومن دون أخطاء أو أضرار. يحدثني على امتداد الطريق عن رسالته الّتي يعتنقها بصدقٍ وأمانة وهي "حفظ السّلام"، فيما لا يُخفي بتاتًا فخره بإيطاليته مردّدًا "we are proud Italians"، ويقول "إيطاليا قدمت الكثير للبنان ونتمنى أن تُثمر هذه التقديمات وأن نتمكن يومًا ما أن نُحقق غايتنا في بسط السّلام وأن يعود السكّان إلى منازلهم". يستذكر ميلي فاجعة 4 آب قائلًا: "4 آب أدمت قلوبنا، وفعلنا كل ما يُمكن للمساعدة، تبرعنا بالدماء وصلينا لشفاء المصابين وأرواح الضحايا"..

نصل المركز مُجدّدًا، فيما يدعونا الكولونيل المُهذب وطويل الأناة، نحن الغرباء المتجولين بينهم، الفضوليين وكثيري الأسئلة، للغداء، رافضًا "لا" كإجابة، ليقول ممازحًا: "إذ كنتم أنتم الشرق أوسطيون تظنون أنكم كرماء، فانتظروا أن تروا الكرم الإيطاليّ على أصوله". نقاسم الجنود وجبة الغداء الإيطاليّ. ليحين وقت الرحيل، يرافقنا الكولونيل ومعاونه مُجدّداً إلى البوابة الرئيسيّة لتوديعنا بلباقةٍ ولطفٍ بالغ. يلوح مودعًا ومنتظرًا السّيارة حتّى تغيب عن عينيه ليدخل إلى القاعدة.

الجنوب: الاستتباب المؤقت
في طريقنا للعودة إلى بيروت، نجول في الجنوب، والحال أن أي مقارنة لما كان عليه الجنوب قبل 11 شهرًا ولما آلت إليه المشهديّة العامة اليوم، تُظهر مفارقة رديئة مؤداها التّحسر المبتذل، فاقد الجدوى، والباعث للاكتئاب. إذ يتمظهر جليًّا هذا التّسليم المُطلق لـ"الأمر الواقع" (الذي لطالما كان عنصرًا تاريخيًّا نشطًا في حياكة مسار حياة اللّبنانيين)، على المُدن الجنوبيّة من الناقورة إلى صور وصولًا إلى صيدا، حيث يبدو وكأن السكّان يواصلون "مهنة العيش" على مضض..

وقد يكون وحده النظر إلى الواجهة البحريّة المهجورة لهذه المدن، الّتي اعتادت في هذا الوقت تحديدًا من الصيف على الازدحام، أبلغ وصف للواقع من دون الحاجة لشرحه. توصيف الاستتباب المؤقت الذي يعيشه الجنوب بشكلٍ خاص، وتعيشه الجمهوريّة اللّبنانيّة بشكلٍ عام..