حوار "حماية لبنان وخيارات الاستراتيجيات الدفاعيّة"

بتول يزبك
الجمعة   2024/08/30
المأزق ابتدى في تكريس موقع لبنان كـ "دولة حاجز" وساحة لصراع القوى (علي علوش)
كأن هناك نهجٌ متعمّد من قبل القيمين على الشأن اللّبنانيّ، باعتماد ما يُصطلح على تسميته بـ"سياسة اللاسياسة" إزاء كل ما يحصل في لبنان اليوم. بل وكأن هناك تدبيرًا مقصودًا، عند المنظومة مجتمعة، للإبقاء على لبنان كما كان تاريخيًّا "دولة الحاجز" والتسليم لهذا الأمر الواقع؛ محتجزين "البلاد والعباد" ومصيرهما في دوامةٍ مغلقة من الضلال وانتفاء اليقين، باتت تتوسع وتضيق اليوم تبعًا لواقع الميدان. فيما تُدمر وبالتقسيط كل مقومات العيش وتُبدّد جهود أجيالٍ في البناء.

لعلّ هذا الاستنتاج قد يخرج به، أي شخص تابع أو حضر "المنتدى الحادي عشر لمنتدى المدينة"، الذي أُقيم مساء الأمس، الخميس 29 من آب الجاري، في مركز توفيق طبارة. والذي عُقد تحت عنوان "حماية لبنان: قراءة في خيارات الاستراتيجيات الدفاعيّة".  وحضر جلسة الحوار، كل من الخبير في الشؤون السّياسيّة والأمنيّة والأستاذ المحاضر في معهد العلوم السّياسيّة في الجامعة اليسوعيّة، العميد الركن خالد حمادة؛ والمدير السّابق لمعهد العلوم السّياسيّة في جامعة القديس يوسف ببيروت والخبير في العلاقات الدوليّة والشرق الأوسط، كريم بيطار، فيما يَسّر النائب إبراهيم منيمنة الحوار، مناقشًا الحاضرين وطارحًا الأسئلة.

قراءة في الخيارات الاستراتيجيّة
وأثناء الحوار جرى استعراض فشل السّياسة اللّبنانيّة تاريخيًّا وتحديدًا في السّنوات الأربعين الأخيرة، في وضع ولو مدماك مؤسس واحد لاستراتيجيّة وطنيّة للدفاع (بشكلٍ عامّ وتحديدًا أمام الاحتلال الإسرائيليّ). هذا العجز الذي ليس إلّا امتداد بديهيّ لذلك التّباين الشهير في ما يتصوره جزء من المواطنين لـ"لبنانهم المأمول"، والمسارات الملتويّة الّتي سلكوها للوصول إلى رؤاهم وتطلعاتهم. المسارات الّتي تصب في قلب مأزق "السيستم اللّبنانيّ المعطوب"، المُشوه، المُولد للأزمات، والمبني على عقيدةٍ مواربة لاستنزاف كل الموارد، وحمايتها بشبكةٍ من اللصوصيّة والعنف والسلطويّة.

واُستهلت الجلسة، بكلمة بيطار، الذي قدّم في بدايتها، موجزًا تاريخيًّا عن الإخفاق في فهم ضرورة وضع استراتيجيّة دفاعيّة بالمرتبة الأولى، وأشار إلى كون المأزق ابتدى في تكريس موقع لبنان كـ"دولة حاجز" وساحة لصراع القوى، باستغلال هواجس الأقليات الدينيّة بطريقةٍ زبائنيّة، ومن هنا طرح بيطار سبع خطوات مقترحة لبناء استراتيجيّة دفاعيّة، كما يلي:

أوّلًا: العودة إلى الدولة. واعتبر أن الطريق إلى ذلك يأتي بدايةً بفهم كيف تمكنت القوى الإقليميّة المتناحرة باستغلال هواجس الطوائف اللّبنانيّة، والتقليل من الانقسامات الداخليّة، مستشهدًا بقول الرئيس الأميركيّ أبراهام لينكون في خطبة "البيت المنقسم" الشهيرة "A house divided against itself, cannot stand." (كل بيتٍ منقسم على ذاته لا يثبت). مؤكدًا أنّنا إزاء فشل تاريخيّ في بناء دولة بحدّ ذاتها، وعرج على تجربة الرئيس فؤاد شهاب. بينما أكدّ أن الإمساك بزمام الدفاع يستوجب رؤى سياديّة تتدرج من السّياسة والدبلوماسيّة إلى الرؤى الاقتصاديّة والاجتماعيّة، وهذه الرؤى هي موحدة بشكلٍ مطلق أي لا تجتزأ وليست حكرًا على محورٍ معين.   

ثانيًّا: خلق استراتيجيّة شاملة، أي بالمعنى الكليّ للاستراتيجيّة، وهنا استطرد بالقول أن محور "الممانعة" في لبنان فشل في وضع استراتيجيّة شاملة. وبينما أكدّ على أهميّة تصور أبعاد اجتماعيّة واقتصاديّة لهذه الاستراتيجيّة، فإن هناك أهمية لبُعدٍ ثقافيّ أيضًا، معتقدًا أن هناك شيءٌ خاطئ في الاعتقاد أن المقاومة أو الدفاع يتوقف عند السّلاح والسّياسة، بل إيجاد الثغرات في السّرديّة الإسرائيليّة على سبيل المثال يُمكن أن يكون وسيلة للمقاومة كما هو الحال في العالم المعاصر اليوم.

ثالثًا: ضمّ الميليشيات إلى الجيش. واعتبر أنّه لا يجوز أن تكون المقاومة في حال ضرورتها، حكرًا على حزبٍ أو طائفة ما. وهذا أساسًا يصب في مبدأ السّيادة بشكلٍ مباشر. وأن يكون مثل قرار الحرب والسّلم منوط بالدولة الّتي تحتكر العنف المشروع (الإرادة الجماعيّة الّتي يتنازل فيها الأفراد عن جزء من حريتهم للسلطة لغاية التنظيم والدفاع.. إلخ).

رابعًا: الابتعاد عن القراءات الثقافويّة السطحيّة، الّتي تُعمم صورًا نمطيّة وتُعمق الشرخ بين الجماعات والمجتمعات القاطنة في لبنان.

خامسًا: محاولة تحييد لبنان عن حرب المحاور. وهنا أكدّ أن هناك فرق بين الحياد والتحييد، بمعنى أن التحييد يكمن في تخليص لبنان من لعنة "دولة الحاجز" (وهي دولة واقعة في وسط منطقة مواجهات استراتيجيّة بين قوى إقليميّة أو دوليّة، وهذه الدولة الحاجز تتميز بوجود سلطة "هشة" أو متزعزعة..)، معتقدًا أنّه وخلافًا للسرديّة الحاليّة الّتي تعتبر أن حزب الله هو "دويلة داخل دولة"، فإن الحزب اليوم (كما باقي الفصائل والأحزاب المُسلّحة) هو دولة داخل اللادولة.

سادسًا:  دراسة إسرائيل. بحيث إن دراسة ما يُعتبر "العدو" هو أمر مُلّح أيضًا، بيّد أن إسرائيل خصصت في جامعاتها ومؤسساتها أقسامًا لدراسات السّياسة العربيّة، بينما تغيب مثلًا دراسة إسرائيل سياسيًّا وسوسيولوجيًّا واقتصاديًّا وغيرها عن مجالات التخصّص والتعلم في الدول العربيّة ولبنان خصوصًا.. واستشهد بقول المفكر الفلسطينيّ إدوارد سعيد الذي أشار سابقًا لضرورة معرفة السّياسة الداخليّة لإسرائيل.

سابعًا: وختم الاقتراحات، بأهمية بناء دولة من جديد، معتقدًا أن هناك الكثير من الخيارات الّتي قد تحمي لبنان أكثر من الـ150000 صاروخ..

الاستغناء التاريخيّ عن استراتيجيّة الدفاع
من جهته أشار حمادة، إلى فكرة غياب مصطلح "الاستراتيجيّة الدفاعيّة" أساسًا عن الأدبيات السّياسيّة اللّبنانيّة، حتّى العام 2005 وكان يستعاض بـ"العقيدة القتاليّة" بالمقابل، وفي وقتٍ لم تكن فيها طرح المصالح الوطنيّة بالأمر السّهل بل كانت مصدر خلاف، يعتقد حمادة، أن هنا بالتحديد يكمن عمق المشكلة، الّتي زادها غياب استراتيجيّة لبنانيّة لدعم القضية الفلسطينيّة، وصولًا إلى لحظة بات فيها لبنان منخرطًا في عمق النزاع حول القضية وبصورةٍ عسكريّة ومسلّحة من دون أن يكون ذلك مقرونًا بقرارٍ رسميّ نابع من إرادة عامّة.

وأكدّ حمادة في هذا السّياق أنّه وفي لبنان تمّ التخلي طوعًا عن القرار 1701 بإقرار الحكومة أن قرار الحرب والسلم ليس بيدها.. معتبرًا أن هذا وليد مسار تراكميّ تاريخيّ مستعرضًا بداية التعثر منذ العام 1958 والتقرّب من حلف بغداد (أزمة لبنان الشهيرة  في تموز العام 1958 حيث كان لبنان مهددًا بحرب أهلية). واعتقد حمادة أن قراءة التاريخ والتعلم من دروسه هو ضروري لبناء أي استراتيجيّة وطنيّة للدفاع أيضًا. وانطلق في شرح عدّة مقترحات تقاطعت مع مقترحات بيطار في عددٍ من المواضع.