لبنان والحرب: تحدّيات الميثاقية القتالية

رأي أحمد جابر
السبت   2024/11/16
يجب إدارة الصراع وفق حسابات الربح والخسارة (مصطفى جمال الدين)

قام لبنان الكبير على ميثاقية مدنية توافقية، شكَّلت حتى عقود رابطة جمع بين أبنائه. تجاوزت الأطياف الداخلية مجتمعة على ميثاقية النشأة في عدد من المحطات السياسية، واستبعدت الجماعات الأهلية روابط ميثاقيتها في محطات النزاع الداخلي في ما بينها، وفي المعارك العسكرية التي أُلقيَ لبنان فيها.

لبنان اليوم في حرب، وأرضه ميدان لعدوان واسع. مجموعات لبنان اليوم تقيم على خلاف حول أسباب الحرب، وتطرح علامات استفهام حول احتمالاتها، وتعلن هواجس سياسية و"كيانية" حول ما قد تحمله نتائج ختامها.

قد يكون غريباً، أو مستغرباً بعض الشيء، الحديث عن ميثاقية قتالية ظرفية بين اللبنانيين، هذا صحيح، لكن الصحيح أيضاً هو أن أسباب الحرب التي تبنتها "المجموعة" الشيعية، ممثلة بالمقاومة الإسلامية، كانت وما زالت موضوع خلاف مع المجموعات الطائفية الأخرى، وإذ تقيم الشيعية في نقطة التأكيد، فأنّ شريكاتها في البلد تقيم في نقطة نفي التأكيد ورفضه وعدم تبنّيه.

الخلاف في الحرب، وعلى الحرب، يترك أثره السيّء على سيرها وعلى نتائجها. لذلك فإن ربط النزاع حول الأسباب، وتعليق السجالات حولها كخلاف ابتدائي، من شأنه تسهيل الوصول إلى صيغة عملية حول إدارة المواجهة مع العدوان الإسرائيلي، في صيغة سياسية عملية مشتركة، واضحة البيان وطليقة اللسان. في هذا السياق، لا بديل من الوضوح في الشرح، رفضاً أو موافقة، ولا بديل من التزام الصيغة التوافقية الجمعية، التي نسمّيها، مجازاً، الميثاقية القتالية.

موضوعان اثنان يلخّصان موضوع الشرح الواضح المطلوب راهناً، أحدهما سياسي، والثاني قتالي، والإثنان يندغمان في معطى واحد، شأنهما شأن كل مسألة سياسية تطرح على أي بلد في الحالات الحربية. تفريع السياسة، وتوزيعها على بنود، يلخص أفقها الأخير الذي يمكن أن يشكل نقطة ختامها، وتفريع القتالي يلخصه عنوان حدود الميدان، أي ما يمكن أن ينجم عن صراع الإرادات وصراع الوسائط والإمكانات والخبرات... كحصيلة تتوج مجمل الجهود الحربية.

أفق السياسة
تحيط بالحالة اللبنانية ظروف إقليمية ودولية ضاغطة، هذا على سبيل التعميم، وتفتقر المعركة على الحدود وفي الداخل، إلى نصير فعلي، وإلى إسناد حقيقي، من المجموع العربي، أو من المجموع الإسلامي، على وجه الخصوص. وتكاد الصورة تكون معها معاكسة لما يرغبه المقاتلون اللبنانيون، بسببٍ مما يُسلّط من نيران العدو المباشر، ومن حصار الإسناد الخارجي الذي يحظى به هذا العدو.

مقاومة في حالة حصار، تلك هي الحال، لذلك يبدو أفق الربح الوطني صعباً على هذا الصعيد، ويبدو أن ما كان في اليد، من ربح أممي سابق، جسّده القرار 1701، مهدّداً بالسقوط، أو معروضاً على طاولة التعديل الواسع الذي من شأنه أن يفقده الكثير من جوهر الربح الذي انطوى عليه يوم صدوره.

التوسع في الشرح الواضح، معنيٌّ بتعريف الفوز السياسي، وبتحديد مضمونه الواقعي، وبتجسّد هذا المضمون في إجراءات تنفيذية محصنة بضمانات دولية، تثبّت وتحفظ ما سعى إليه اللبنانيون، وتمنع وتردع العدو من التلاعب بها، في يوم قريب، أو في يوم بعيد.

هل نستطيع اليوم تحديد مضمون الفوز الذي يريده اللبنانيون؟ يجب ذلك. استباقيّاً، هو ليس الفوز الذي يذهب إليه المقاتلون، فهؤلاء يعطون لفوزهم اسم النصر، ويعنون به فقط القدرة على إدامة الاشتباك، ومنع العدو من تجريدهم من هذه القدرة. إذا كان السعي جدّياً إلى صياغة ميثاقية قتالية، عندها يجب أن يكون الفوز محدَّداً بأهداف سياسية وطنية تحمي الأرض والشعب، وتصون الاستقلال والسيادة والسلم المستدام. من دون مكابرة، ما زال الخلاف واضحاً على صعيد التعريف اللبناني لمآل المعركة، فهذه أراد لها المقاومون وما زالوا، أن تكون ذات عنوان خارجي، فاكتفوا بجعلها حرب إسناد لغزّة، وقد كان متاحاً، أن تكون حرب تنفيذ كامل بنود القرار 1701، بكافة بنوده، هكذا تكون اللبنانية عنواناً للجهد القتالي، ويكون تخفيف الضغط عن غزّة، مؤسساً على سياسة لبنانية تطمح إلى تحقيق مصلحة لبنانية مباشرة، وإلى تحقيق مصلحة عربية استطراداً.

على السياسة اللبنانية تقوم ميثاقية وطنية، أما خلاف ذلك، فستظل الخارجية عامل افتراق بين اللبنانيين.

حدود الميدان
حدود القدرة والقوى، ترسم حدود الميدان، أي تحدّد النظرة الواقعية إلى ما يمكن أن يسفر عنه الميدان واقعياً. بكلام واقعي يجب الاعتراف بحقيقة تفوق العدو، عدداً ووفرة وسائط. وبكلامٍ واقعي إضافي، يجب قراءة خطته القتالية، ببعدها العملياتي المباشر وبأبعاد أهدافها غير المباشرة، قراءة حقيقية ملموسة، بعيداً من الرغبوية، وبعيداً خصوصاً من الترويج الإعلامي الذي يعود على أصحابه بالضرر في نهاية المطاف.

القول الحقيقي الآخر، هو القول الذي يخصّ المقاومة اللبنانية، فهذه يجب تحديدها بما هي عليه، أي بما هي مجموعات قتال متحرك لا تتمركز جبهوياً، ولا تقاتل بتشكيلات نظامية، بل تعتمد المرونة والتمويه والسرعة والدقة في أدائها، فلا هي مدعوّة إلى ما ليس من أساس بنائها، ولا هي مدعوّة إلى صمود جبهي، لتلقي صدمة الهجوم النظامي، من الثبات.

إذن، ومن موقع فهم طبيعة القوى الذاتية، وفهم ما هي مؤهّلة له، وما هي مدعوّة إليه، يجب نفي الصفات التي يكيلها الإعلام للمقاتلين الثابتين الصامدين، من قبيل القتال الأسطوري، ويجب في الوقت ذاته التخلص من كيل صفات الهروب والخوف والفرار إلى العدو. هذا غير حقيقي، بشهادة الحقيقي الذي يقدمه الواقع حيث يتواجه المقاتلون الشجعان مع الجيش المعادي ذي الكفاءة القتالية، وذي الإمكانات المادية ذات المردود القتالي العالي.

تأسيساً على فهم الذات وفهم العدو، يجب إدارة الصراع وفق حسابات الربح والخسارة، على الجبهة الأمامية، وفي العمق الذي تستند إليه هذه الجبهات.

في الحالة اللبنانية، لقد أثبتت اليوميات أن قدرة المقاومين على إلحاق الأذى بالعمق الإسرائيلي، هي أقل بما لا يقاس بقدرة العدو التي أنزلت بالعمق اللبناني أفدح الخسائر.

النقاش الاستطرادي لهذه المسألة يطرح موضوع الفائدة المرجوّة من قصف العمق الإسرائيلي، ما دامت النتائج غير متكافئة، وإلى ذلك يضاف السؤال الآتي: أليس من الأجدى عملياتياً تركيز جهد القصف على الحد الأمامي وعلى خطوط تقدم العدو، وعلى حدود إمداده المباشر؟ القصف على هذه الخطوط يزيد من خسائر الأفراد، والخسارة لدى العدو على الجبهة لها ارتداداتها في الداخل الإسرائيلي، في صيغة احتجاج على السياسات الرسمية الحربية، وهذا مما لا يؤمّنه قصف المقاومة للتجمعات السكنية البعيدة التي لا تبدي السلبية ذاتها على الحكم، بل لعلّها تضع المقاومة موضوعاً لاستهداف سلبياتها.

ما الحصيلة
يطول الحديث السياسي مثلما يطول الكلام على الأداء القتالي، وتظل الخلاصة المجدية واحدة، خلاصة في صيغة سؤال هو: ما الإدارة الأجدى للمعركة التي انتقلت من انخراط فردي اختارته فئة، إلى حرب تهدد مصير الوطن اللبناني؟ الانتقال إلى هذا البحث لا يلغي كل الآراء التي قيلت في تفرّد وانفراد المقاومة الإسلامية، لكنه ينتقل إلى موقع الشراكة في تقرير السياسة الأفضل لتحقيق المصالح الوطنية اللبنانية، في السياسة كما في الميدان، ويؤسس كشرط استباقي إلى الانتظام السياسي الأفضل الذي يحمي هذه المصالح لاحقاً، في وطن ودولة ومؤسسات، من دون طلب غلبة داخلية، ومن دون قفز إلى ما فوق المعادلة الوطنية، ومن دون التحاق بمحاور خارجية.

لكل بلد صداقاته، ولكل بلد علاقاته، ولكل بلد مؤسسات رسمية ومرجعيات وطنية مسؤولة، تدير السياسات، لذلك لا تجاوز لأي فريق لبناني على الداخل، بذهابه نحو الخارج، فهذا يجب أن يكون من ممنوعات السياسات الوطنية.

لعل الميثاقية الحربية الممكنة، تكون كفيلة هذه المرّة بكتابة الجملة الأخيرة في كتاب الميثاقية السياسية الوطنية، فتكون بذلك حدّاً لنهاية حالات الاستتباع الأهلية، بعناوينها القومية والإسلامية، العربية وغير العربية.