التحرك الأميركي نحو لبنان: التفاوض تحت النار
زار المبعوث الأميركي الخاص لبنان، آموس هوكشتاين، بيروت - بصفته هذه - للضغط على الحكومة اللبنانية، من أجل الترويج لتطبيق قرار مجلس الأمن 1701 معدلًا. وذلك في مهمة أخيرة قبل أن يترك منصبه في إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، في مطلع تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل. فالولايات المتحدة الأميركية، المؤيدة للحرب الإسرائيلية على حزب الله، ترى أن قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة الذي أنهى حرب إسرائيل مع حزب الله في عام 2006، يمكن أن "يشكّل أساسًا لوقف إطلاق نار جديد"، على الرغم من أنه يحتاج، بحسب إدارة بايدن، "إلى تدابير إضافية لضمان تنفيذه"؛ بمعنى إدخال تعديلات عليه، تضمن إبعاد حزب الله عن الحدود. وفي الوقت نفسه، تتصاعد الضغوط على رئيس مجلس النواب، نبيه بري، لتسهيل انتخاب رئيس جديد للجمهورية في ظل الحرب، وذلك لتعجيل اتخاذ قرار بإرسال الجيش إلى الجنوب، قبل التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، على الرغم من استحالة ذلك، ما يبقي أمرًا واحدًا فقط؛ هو استغلال الحرب لانتخاب رئيس. ترفض إسرائيل وقف الحرب حتى تحقيق ما تعدُّه انتصارًا مطلقًا. ومن جهته، يرفض حزب الله "التفاوض تحت النار"، كما جاء على لسان مسؤول الإعلام، والناطق باسم حزب الله، محمد عفيف، ويصر على وقف العدوان الإسرائيلي قبل الدخول في أيّ تفاهمات سياسية؛ سواء كانت متعلقة بتطبيق القرار 1701، أو بانتخاب رئيس جديد للجمهورية.
مفاوضات تحت النار
بعد مرور ما يقرب من عام على مواجهتها مع حزب الله، التي بدأت بعد يوم من عملية "طوفان الأقصى" في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وانطلاق العدوان الإسرائيلي على غزة، أعلنت إسرائيل، في 1 تشرين الأول/ أكتوبر 2024، أن قواتها عبرت الحدود إلى جنوب لبنان لتنفيذ ما وصفته بـ "عملية برية محدودة النطاق". وقد جاء الإعلان الإسرائيلي بعد أسبوعين من تصعيد ممنهج؛ بدءًا بتفجير أجهزة اتصال حزب الله، وشنّ غارات جوية، أسفرت عن اغتيال عدد من قادته، بمن فيهم الأمين العام للحزب حسن نصر الله.
ورغم أن القتال برًّا ظل محصورًا بعد شهر على اندلاعه على طول الحدود بسبب المقاومة الشديدة التي يبديها حزب الله، فإنّ نطاق الضربات الجوية شمل أجزاءً واسعة من لبنان مع التركيز خصوصًا على المناطق التي توجد فيها قواعد لحزب الله أو حاضنته الشعبية، مثل الضاحية الجنوبية لبيروت والبقاع والجنوب، حيث جرى تشريد أكثر من مليون شخص. وتهدف الحملة العسكرية الإسرائيلية التي أدّت أيضًا إلى دمار واسع خاصة في القرى الجنوبية إلى إجبار حزب الله والحكومة اللبنانية على الرضوخ للشروط الإسرائيلية الهادفة إلى تعديل قرار مجلس الأمن 1701؛ بما يضمن نزع سلاح حزب الله، أو على الأقل ضمان عدم استعادته قوّته أو وجوده في مناطق جنوب نهر الليطاني.
العودة إلى القرار 1701
كان مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة قد صوّت، في آب/ أغسطس 2006، بالإجماع على القرار 1701، لإنهاء حرب تموز/ يوليو بين إسرائيل وحزب الله. وقد دعا نص القرار إلى نشر قوات الحكومة اللبنانية وتوسيع نطاق عمل قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان التابعة للأمم المتحدة الـ "يونيفيل" لتشمل المناطق الواقعة جنوب نهر الليطاني بالقرب من الحدود مع إسرائيل، ومنع أي قوات أخرى من الوجود في المنطقة. وتضمّن القرار 1701 أيضًا أحكامًا تهدف إلى بسط الحكومة اللبنانية سيطرتها على الأراضي اللبنانية كلّها، وممارسة سيادتها عليها وفق أحكام القرار 1559 والقرار 1680 لعام 2006، والأحكام ذات الصلة من اتفاق الطائف، ومنع حمل الأسلحة أو استخدامها من دون موافقة الحكومة، ما يعني أن يتخلى حزب الله عن سلاحه، وهو الأمر الذي يرفضه الحزب بشدة.
وتنتشر قوات اليونيفيل، في جنوب لبنان، منذ عملية الغزو التي قامت بها إسرائيل تجاه لبنان عام 1978. وقد توسعت مهمات هذه القوات منذ عام 2006، وازداد عديدها لضمان الالتزام بالقرار 1701، وتولت مهمة مراقبة الخط الأزرق، الذي يبلغ طوله 120 كيلومترًا، وقد حدّدته الأمم المتحدة بعد انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان عام 2000. وبموجب القرار 1701، من المتوقع أن تحذر كل من إسرائيل ولبنان اليونيفيل مسبقًا عندما ترغب في القيام بأي أنشطة بالقرب من الخط الأزرق. ووفقًا لبعثة الأمم المتحدة، فإنّ "أي عبور غير مصرح به للخط الأزرق برًّا أو جوًّا، من أيّ جانب، يشكّل انتهاكًا لقرار مجلس الأمن 1701".
ويخضع القرار، منذ صدوره في 11 آب/ أغسطس 2006، لتأويلات كثيرة، غالبًا ما تتوسّلها إسرائيل لتبرير انتهاكها السيادة اللبنانية، بذريعة عجز لبنان عن حفظ هذه السيادة. وقد تجلى قصور هذا القرار وعدم فعالية تنفيذه في آلاف الخروق التي سجلتها تقارير الأمين العام للأمم المتحدة المرفوعة إلى مجلس الأمن بشأن تنفيذه مرتين في السنة.
مع انطلاق التوغل البري الإسرائيلي في جنوب لبنان، في مطلع الشهر الجاري، أخذت إسرائيل تستهدف قوات اليونيفيل، مستهدفةً الضغط عليها للانسحاب من المنطقة. وقد اتهمت الأمم المتحدة إسرائيل بأنها هدمت أحد أبراج المراقبة التابعة لها، وسياجًا في بلدة مروحين بجنوب لبنان "عمدًا". واتهمت الجيش الإسرائيلي بإطلاق النار "على نحو متكرر" و"متعمد" على مواقع قواتها. وكانت إسرائيل قد أشارت إلى "إخفاق" الأمم المتحدة في تنفيذ القرار 1701 باعتباره سببًا للحرب، مع تصاعد دعوات أميركية وإسرائيلية بعدم كفايته، وضرورة إدخال تعديلات عليه.
التعديلات الإسرائيلية المقترحة على القرار 1701
بحسب مصادر إعلامية أميركية، سلّمت إسرائيل الولايات المتحدة وثيقة تتضمن شروطها للتوصل إلى حل دبلوماسي لإنهاء الحرب في لبنان، وقد أخذها معه المبعوث الأميركي، هوكشتاين، في زيارته الأخيرة إلى بيروت. طالبت إسرائيل في الوثيقة بأن يُسمح لقواتها بالمشاركة "النشطة" للتأكد من عدم إعادة تسليح حزب الله، أو إعادة بناء قدراته العسكرية بالقرب من الحدود، كشرط لحل دبلوماسي لإنهاء الحرب في لبنان والسماح للمدنيين النازحين بالعودة إلى ديارهم. وطالبت إسرائيل بحرية عمل قواتها الجوية في المجال الجوي اللبناني. وعلى الرغم من أن هذين المطلبين يتناقضان بوضوح مع القرار 1701، الذي ينص على أن القوات المسلحة اللبنانية وقوات اليونيفيل هما اللتان تتوليان مسؤولية فرض وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحزب الله، فإنّ الولايات المتحدة، وافقت على نقلها إلى لبنان باعتبار ذلك من شروط إسرائيل لإنهاء الحرب. بناءً عليه، وصل هوكشتاين إلى بيروت في 22 تشرين الأول/ أكتوبر الجاري، واجتمع برئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي ورئيس مجلس النواب نبيه بري. وبعد الاجتماع، صرّح بري بوجود إجماع في لبنان بشأن القرار 1701، وأنه يرفض أيّ "محاولة من شأنها تعديله بأي شكل من الأشكال".
وعلى الرغم من أن هوكشتاين رفض في مؤتمر صحافي عقده في بيروت في ختام زيارته تحديد ماهية المطالب الإسرائيلية، فإنه أشار إلى أن لبنان وإسرائيل لم ينفّذا القرار 1701 على نحو كامل قط، وهو ما "ساهم في الصراع الذي نشهده اليوم، وعليه يجري العمل على صيغة من شأنها أن تُنهي الصراع مرة واحدة وإلى الأبد". وزعم هوكشتاين أن الحل يجب أن يرتكز على القرار 1701، ولكن "يتعين وضع الأمور في نصابها"، بطريقة تمنح "الثقة بأن الأمور ستكون مختلفة هذه المرة"؛ في إشارة منه إلى رغبة الولايات المتحدة في تعديل قرار الأمم المتحدة 1701، لضمان أن يكون الجيش اللبناني، القوة الوحيدة المسلحة الموجودة في جنوب لبنان. أما التناقض، فيكمن في أن إسرائيل ترى أن الجيش اللبناني سيكون القوة المسلحة الوحيدة في لبنان، إذا ضمنت هي أنه لا يوجد غيره، أي إنه لن يكون وحده، بل سوف تحضر إسرائيل عمليًّا إلى جانبه. فإسرائيل لم تنسَ تجربة ما بعد حرب 1982، وهي تعلم أنه لا يمكنها الاعتماد على القوة اللبنانية الخصم لحزب الله، ثمّ إنها تصرّ على دورها، وربما تصرّ على دورٍ لقوات دولية حليفة لها في المستقبل.
وتمهيدًا لزيارة هوكشتاين، ولمساعدته في الضغط على حزب الله، وتشجيع القوى السياسية اللبنانية الأخرى على قبول مقترحاته، شنّت إسرائيل في الليلة التي سبقت وصوله إلى بيروت حملة جوية واسعة عبر لبنان، وقد شملت عشرات الأهداف الخاصة بـ "مؤسسة القرض الحسن" التابعة لحزب الله، بما في ذلك مقرها الرئيس في الضاحية الجنوبية لبيروت. وبرر الجيش الإسرائيلي حملته تلك بأن المؤسسة تعمل على نحو مستقل عن النظام المالي اللبناني، وأنها لا تخضع لإشراف الحكومة أو البنك المركزي، وأنها تتلقى مئات الملايين من الدولارات من إيران سنويًّا، وأنها أدّت دورًا رئيسًا في تمويل عمليات الحزب.
الضغط على بري
نتيجةً لفشل هوكشتاين في "قطف" نتائج الضغط الناري الإسرائيلي الكبير، الذي امتدّ إلى جميع مصادر قوة حزب الله العسكرية والمالية، إضافةً إلى ضرب شبكة خدماته الاجتماعية والصحية والتعليمية؛ لدفع حاضنته الشعبية إلى الانقلاب عليه، واستضعافه من جانب القوى السياسية الأخرى في لبنان، التي بدأت ترفع صوتها باتهامه بالمسؤولية عما آلت إليه الأوضاع، بدأت الضغوط تتزايد على نبيه بري في اتجاهين: الأول لدفعه إلى الخضوع للشروط الإسرائيلية الخاصة بتعديل القرار 1701 باعتباره المفاوض الرئيس عن حزب الله، والثاني من أجل السماح بعقد جلسة لمجلس النواب لانتخاب رئيس للجمهورية، وهو المنصب الذي ظل شاغرًا منذ انتهاء ولاية الرئيس السابق ميشيل عون في تشرين الثاني/ نوفمبر 2022، نتيجةً لعجز القوى اللبنانية عن التوافق بشأن مرشح للمنصب.
أخذت الضغوط تأتي من جانبين؛ الأول اقتصادي، تمارسه الولايات المتحدة؛ إذ دعا عضوَا الكونغرس الأميركي من أصل لبناني، دارين لحود وداريل عيسى، في رسالة إلى الرئيس الأميركي بايدن، أُودعت نسخة منها لدى وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، إلى الضغط من أجل انتخاب رئيس للجمهورية. وقد حمّلت الرسالة برّي مباشرةً مسؤولية عرقلة انتخاب رئيس الجمهورية، واتهمته بأنه "عقبة رئيسة تحول دون فتح البرلمان". وقد نصّت الرسالة على ما يلي: "قام رئيس مجلس النواب نبيه بري بشكل محدد بعرقلة العملية الانتخابية، وهو لا يتصرف بوضوح بما يخدم مصلحة لبنان وشعبه. ويستمر في أن يكون عقبة رئيسية أمام فتح البرلمان، ويجب أن يُنظر إلى أي عرقلة متعمدة لانتخابات رئاسية سريعة على أنها مدمرة للغاية لمواطني لبنان وفرصة تعافي البلاد في المستقبل". وتطلب الرسالة بوضوح، في نهايتها، فرض عقوبات على المعرقلين؛ وذلك في تهديد مبطَّن لبري إنْ لم يغير موقفه، ومن ثمّ يسمح بانتخاب رئيس للجمهورية. ورأت الرسالة أن لدى الإدارة الأميركية فرصة لتحقيق ذلك؛ إذ بات حزب الله ضعيفًا إلى حدّ بعيد "نتيجة استهداف عناصره وقيادته ومع تراجع سيطرته على لبنان، واستمراره في فقدان القادة والمقاتلين والبنية التحتية والتمويل والنفوذ".
أمّا الجانب الثاني في الضغط على بري، فقد جاء عسكريًّا؛ إذ بدأت إسرائيل، بعد يوم واحد فقط من تصريح لرئيس مجلس النواب بأنه يرفض إدخال أيّ تعديلات على قرار مجلس الأمن 1701، باستهداف مدينة صور بغارات جوية عنيفة، أوّل مرة، منذ بداية العدوان الإسرائيلي على لبنان. ففي 23 تشرين الأول/ أكتوبر الجاري، وجّه الجيش الإسرائيلي تحذيرات طلب فيها من سكان بعض المباني في مركز مدينة صور إخلاء بيوتهم، تمهيدًا لقصفها بزعم وجود مقار ومنشآت تابعة لحزب الله فيها. ويبدو أن غرض إسرائيل من هذه الهجمات هي الضغط على بري باعتبار أن صور تشكّل معقله الرئيس، وتضمن حاضنة حركة أمل التي يقودها بري.
خاتمة
تحاول إسرائيل، من خلال رفع وتيرة عدوانها على لبنان، بدعم وتغطية أميركيَّين، فرضَ شروطها لتغيير المشهدين السياسي والميداني، عبر إضعاف قدرات حزب الله العسكرية، واستهداف شبكة خدماته الاجتماعية والصحية والتعليمية ودفع حاضنته الشعبية إلى التخلي عنه. وتحاول أيضًا، من خلال الضغط على بقية القوى السياسية، دفعها إلى التخلي عن حزب الله وعزله لبنانيًّا، على نحو يؤدي إلى تحقيق هذه الأهداف. وقد بدا ذلك ممكنًا من خلال المواقف الأخيرة التي أطلقها رئيس التيار الوطني الحرب جبران باسيل، وقد اتهم فيها حزب الله بأنّه جر لبنان إلى حرب أضعفته. وفي المقابل، سيحاول حزب الله أن يثبت أنه ما زال رقمًا صعبًا في المعادلة، وأنه لن يقبل بتهميشه واستضعافه.
سيتعين على اللبنانيين، من أجل إجهاض المساعي الإسرائيلية التوصل سريعًا إلى توافقات وطنية واسعة تشمل جملة من القضايا السياسية والأمنية المؤجلة؛ لأن البديل من ذلك سيكون سقوط لبنان في حالة من الفوضى الشاملة التي تدفع إليها إسرائيل بقوة عبر تدمير مُمنهج للنسيج الوطني اللبناني.