من فعلاً يخوِّف اللبنانيين بحرب أهلية؟
2467 مواطناً لبنانياً قتلوا، حتى الأمس، على يد عدو لا يحتاج إلى جهد لتبيان مدى توحّشه، ولا بداهة مصلحته في القضاء على لبنان الدولة والمؤسسات و"الفكرة".
لكن ماذا عن مسؤولية اللبنانيين؟ ماذا عن مسؤولية الدولة اللبنانية، حكومة ومجلس نواب؟ وماذا عن مسؤولية حزب الله الذي بدأ حرب "مشاغلة" العدو إسناداً لغزّة، فانتهى لبنان وأهله بأمس الحاجة إلى من يساندهم؟
والسؤال عن المسؤولية ضروري للإجابة على السؤال الأهم: إلى أين من هنا؟ وهل من إمكانية بعد لتجنب الأسوأ، أقله على المستوى اللبناني المجتمعي والأهلي، علّه ينجح لاحقاً في ترميم بنيان الدولة ؟
يكتسب هذا السؤال مشروعيته في ظلّ النفخ المتواصل في بوق التخويف من حرب أهلية!
هو تخويف بدأ مع "النزوح الكبير" من الضاحية والجنوب والبقاع. لكن محاولة متابعة مصدر هذا التخويف أو التهديد، لا يوصل إلى خطاب أي من القوى السياسية المعارضة. فمن يريد الحرب الأهلية؟
عشية حرب الإسناد
دخل حزب الله في "حرب الإسناد" ولبنان يترنح على عتبة جهنم، في السياسة والاقتصاد وانعكاسهما على يوميات الناس. شرائح كبيرة من اللبنانيين على خلاف مع الحزب وتحمّله جزءاً كبيراً من مسؤولية الفشل في انتخاب رئيس وتسيير شؤون الدولة ومؤسساتها، وصولاً إلى التغطية على الفساد والانهيار الاقتصادي، من دون القفز فوق مشاركته في الحرب السوريّة ودعمه النظام فيها.
لذا، ليس جديداً، ولا اكتشافاً، انقسام اللبنانيين حول الحزب ودوره وحجمه وتفرده بالقرار، وفرض إرادته على اللبنانيين. هؤلاء، سنّة، دروز ومسيحيون، اختبروا "بطش" الحزب واستخدام سلاحه في وجههم منذ 7 أيار 2008 في بيروت والجبل إلى عين الرمانة في تشرين الأول 2021. وما بين هذه وتلك قصص استقواء لا تُحصى.
لذا، لا شيء يفاجىء في انقسام اللبنانيين حول الحزب وخلافهم العميق جداً معه. وقد جاءت هذه الحرب لتعمّق الانقسام وتبعد المسافات.
لكن هل من بين هؤلاء من يريد حرباً أهلية؟
لا في المعلن من مواقف القوى والأحزاب المعارضة، ولا في ما يرشح من نقاشات داخلية يمكن تلمّس أي رغبة أو رهان في استدراج حرب أهلية.
صحيح ان بعض القوى تراهن على أن تُغيّر نتائج الحرب التوازنات السياسية القائمة، فتخفف من سطوة الحزب على الدولة لصالح شراكة متوازنة، لا تبعية فيها، لكن أحداً لا يريد، ولا يسعى، إلى حرب أهلية.
بل على العكس. تحرص القوى السياسية على ضبط أي تفلت وتطويق أي صدام مع النازحين، ووضعه في إطار "ضيق خلق" و"ضيق حال" المُضاف والمُضيف من الوضع البائس عموماً. من الجبل، إلى زحلة وطرابلس وجبيل وكسروان وصولاً إلى بيروت، تجهد كل القوى على منع الفتنة.
وقد جاءت مشاهد الموت العبثي والدمار والتهجير التي يتابعها اللبنانيون ويعيشون تداعياتها، لتُوقظ ذكريات جَهِد كثر من بينهم على دفنها في أعماق الذاكرة. هي مشاهد لا يريد من اختبرها تكرارها. أما من لم يختبرها، من جيل شاب، فيجد في صورها المتناقلة اليوم ما لا يَحتمل استسهالاً ولا خفة، ولا حتى "بطولات".
الحرب الأهلية
من يريد استدراج الحرب الأهلية إذاً؟ ولماذا استحضارها في زمن لم يظهر فيه معظم اللبنانيين سوى "الاحتضان" لبعضهم بعضاً، من دون إغفال بعض التجاوزات والخوف، المفهوم، من عناصر الحزب وأحياناً عائلاتهم.
ليس اللبنانيون بقديسين ولا هم شياطين. هم بشر تتنازعهم الأهواء، منهم من يتعاطف أو يشمت. منهم من يبكي تأثراً ومنهم من يبتسم تشفياً. منهم من يحرّض ويخوض حروباً وانتقاماً على وسائل التواصل الاجتماعي، ومنهم من يصلي للسلام. هم كذلك على اختلاف طوائفهم، وفي توالي نكباتها.
ما يجمع اللبنانيين فعلاً أنهم طائفيون حتى النخاع الشوكي. ومن هذا المنظار يقاربون معظم استحقاقاتهم وتحدياتهم الوطنية.
أما الحرب الأهلية، أما حمل السلاح، فليس من يستسهله اليوم، أقله من معارضي حزب الله الوازنين.
وليس في استمرار إشهار المعارضة لخيارات الحزب أي استدعاء للفتنة أو الحرب. بل قد يكون العكس.
لكن السؤال ماذا يريد حزب الله؟ ولماذا هذا التخويف واستمرار لغة التخوين والتهديد المبطن والعلني؟
الحزب الذي استثمر لسنوات في "بيئته الحاضنة" يُفترض أن يدرك أهمية "البيئة" خصوصاً في الأزمات. فكيف يتعاطى الحزب مع "البيئة الوطنية" التي يفترض أن يمد الجسور معها؟
وسط أقسى الظروف، يستمر الحزب، على عادته ، في فرز الناس وتوصيفهم وتخوين من يعارضه. يتوعد بآجال لاحقة للمحاسبة، على اعتبار أن "لا صوت يعلو على صوت المعركة" راهناً، وأن المطلوب من "الآخرين" أعمال إغاثة واستضافة وتعاطف إنساني فقط لا غير.
يواصل حزب الله التحذير والتخويف من حرب أهلية، في حين يعتبر معارضوه أنه يهدد بها. وهو من سبق له أن "ارتد إلى الداخل بعد حرب الـ2006".
والتهويل بحرب أهلية تعمية على راهن، ومستقبل، شديدي البؤس. فكل السيناريوات التي تلوح في الأفق عن الآتي من الايام مخيف ومحبط. فالناس مهجّرة ومفتقرة. البيوت مدمّرة. أحياء اختفت ومناطق ما عادت قابلة للحياة. ما يقارب المليون انسان تغيّرت حياتهم وأماكن سكنهم ومدارس أبنائهم وأعمالهم وأرزاقهم. والدولة، التي يكتشف الجميع عند المحن جدواها، أكثر من استنزف، هيكلاً ومؤسسات ودوراً.
ومع ذلك، من يريد فعلاً تجنب حرب أهلية فلا خيار آخر أمامه: هي الدولة وحدها التي لا شريك لها، إنما الجميع شركاء في بنيانها والتنازل لها عن ... حقوقها!.