الحرب على لبنان وصراع الاستحالات

رأي باسل ف. صالح
الخميس   2024/10/17
يبدو أنه قد فات أوان البحث عن حلول سياسية في وضعية مماثلة للحرب التي نعيش تداعياتها، وذلك على خلاف الحقيقة التي تقر بأن العمل السياسي بأكمله يقوم على هذا المسعى، وأن الغاية النهائية من السياسة هي فن البحث في الممكن، بل محاولة تحقيق هذه الممكنات، بمعزل عن طبيعة الأزمة التي يواجهها السياسي أو الحزب أو الأجهزة الدبلوماسية في دولة. لكن هذا لا ينطبق على حالة لبنان اليوم، ولا على حالة الحرب التي نعيشها، خصوصًا وأن الحلول الواقعية التي قد تسرع في آلية إنهاء الحرب، ووضع حد لها بما يحافظ على ما تبقى من لبنان، وبما يحافظ على ما تبقى من إمكانية للخروج من هذا المأزق، ومواجهة تداعياته في اليوم الثاني بعد الانتهاء الافتراضي للحرب، تكاد تكون شبه معدومة.

ليس على سبيل السوداوية الإمعان في القول بإنتهاء الحلول والإقرار باستحالة الممكن، فهذا هو الواقعي في أيامنا التي تهيمن عليها كل سوداوية وانغلاق، سيّما وأن العدو يمعن في تقويض الحلول من خلال طرح تناقضات يعلم جيدًا أن إمكانية معالجتها تكاد تكون شبه معدومة. فها هو يربط، ومنذ أيام، مصير الحرب على لبنان بتحرير أسراه الذين اعتقلتهم حركة حماس في السابع من أكتوبر 2023. إذ بعد أن كان العدو نفسه يقر بأن لا وقف للحرب على غزة من دون إطلاق سراح الاسرى، يحاول اليوم إعادة تكرار السيناريو نفسه في حالة لبنان. علمًا أنها خطوة مستحيلة بدورها أيضًا، لأن لا علاقة لحزب الله وبالتالي للبنان بها، ولأن لا علاقة ضرورية تربط بين حزب الله في لبنان وبين حركة حماس في غزة، بحيث تفضي إلى تحقيق هذا الهدف، على الرغم من التحالف الموضعي بينهما الناتج عن الانتماء لمحور الممانعة بشكل عام. لذلك، من الاستحالة افتراض أن حماس يمكن أن تطلق سراح الأسرى من أجل وقف تدمير لبنان، علمًا أنها لم تقم بالخطوة ذاتها من أجل وقف الحرب على غزة.

تؤكد هذه الحالة، وغيرها الكثير من الأمثلة، أن أي إمكانية للبحث عن حلول تكاد تصبح شبه معدومة، ليس في عرف إسرائيل فحسب، بل في عرف الولايات المتحدة الأميركية من خلفها ايضًا. فمنذ أيام صرّحت وزارة خارجيتها أن القبول الاولي الذي أبداه حزب الله، والذي عاد ورفضه الحزب لاحقًا، والقاضي بفصل المسار اللبناني عن المسار الغزّاوي، قد أتى متأخرًا، مضيفة أن إقدام الحزب على هذه الخطوة كان نتيجة الضعف الذي بدأ يهيمن عليه بعد كل ما جرى من استهداف له ولمراكزه ولقياداته ولقاعدته الشعبية وللبنان حتى الساعة.

ربط التفاوض بوقف الحرب

أما من الناحية المقابلة فالمستحيل أيضًا هو السائد، لأن ربط حزب الله مسألة التفاوض بوقف الحرب نهائيًا، هو من المستحيلات، ليس لسبب مباشر بقدر ما هو بالاستناد إلى أن إمكانية الطلب من العدو الذي يرى أنه يحقق بالحزب وبلبنان كل هذه الأهداف ونوعية الدمار، لن يرضى بوقف النار من اجل العودة إلى ما كان الوضع عليه في السابق، خصوصًا وأن العدو والولايات المتحدة الأميركية من خلفه، يعلمان جيدًا أن العودة إلى ما كان سائدًا ليس إلا إعادة تدوير للحالة التي كان الوضع عليها في السابق، سواء لناحية زيادة ترسانة الحزب العسكرية، أو لناحية العودة إلى نقطة الصفر فيما تواجهه اليوم.

إن كان لتقويض هذه الاحتمالات من معنى، فهو استكمال عملية التدمير الممنهج للمناطق الشيعية خصوصًا، في الجنوب وفي البقاع وفي الضاحية الجنوبية لمدينة بيروت، ناهيك عن محاولات العدو توسيع دائرة استهدافاته لتطال مناطق جديدة. وهي المناطق التي عمل على تهجير ناسها بشكل مقصود، بما يشي بأنه يتخطى القضاء على الحزب، بل بانتهاج سياسة الترانسفير إلى أمكنة أخرى بعيدة عن حدوده الشمالية، وبعيدًا عن أي منطقة يمكن أن تسمح للحزب بإعادة تدوير نفسه من جديد والعودة إلى شكل الانتظام السياسي والحزبي والعسكري السابق.

القضاء على أنياب المحور

قد يبدو للوهلة الأولى أن إسرائيل تعمل على هذه القضايا بشكل غير ممنهج، قد يبدو أنها تحاول تحقيق أكبر قدر من الخسائر الممكنة عبر التدمير ومن خلال التهجير فقط، لكن ربط الأمور ببعضها، بالتوازي مع استباحة الأراضي السورية والعراقية واليمنية، وصولًا إلى الكلام عن تنسيقه مع الأميركي قبل ضربته المزمعة لإيران، يشي بأن هذا النوع من الحلول بأكملها أصبحت خلفنا، وأن لا إمكانية لفتح الباب على هذا المستحيل إلا بتنازل عن مستحيل لا يقل جذرية عنه. والمستحيل الذي تريده إسرائيل، في مكان ما، لا يرتبط فقط بإعلان هزيمة حزب الله، وباعترافه بهذه الهزيمة بشكل علني، على الرغم من أنها قد تكون خطوة أولية في هذا الاتجاه، بقدر ما هو القضاء على كل أنياب هذا المحور ومخالبه، وعلى كل ما يمكن أن يشكّل أي نوع من التهديد لها والخطر عليها في المستقبلين القريب والبعيد، وصولًا إلى إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط بمجملها.

قد ينظر اللبنانيون، وعلى غرار عادتهم، إلى أن ثمة من سيأتي لينقذهم مما هم فيه في المقبل من الأيام، على منوال سياسة اللعب على حافة الهاوية التي امعنت الطبقة اللبنانية الحاكمة في ممارستها في مختلف المنعطفات التي واجهتها. لكن هذه المرة الأمر مختلف، لأن من كان ينقذ الطبقة الحاكمة في لبنان في السابق، ومن كان يضبط إيقاع هذه التناقضات، هو نفسه الذي يريد أن يقضي عليها اليوم.