العدوان يفتح دفاتر الحسابات الأهلية
حرب الإسناد التي أعلنتها المقاومة الإسلامية اللبنانية منذ سنة خَلَتْ، تخطت ما كان مرسوماً لها لتصير حرباً مفتوحة على لبنان. من غزّة، التي باتت محتلة عسكريّاً، إلى لبنان الذي صار ساحة قصف مستباحة، تتدحرج كرة النار الإسرائيلية، ومعها تتحرك كرة النار السياسية الداخلية، فتوقظ لظى أزمات كامنة، وتعيد إلى النور الاختلافي مسائل افتراق أهلية أصليّة.
تبدو الحرب غير مقيّدة بزمن إقليمي أو دولي، وممّا هو متداول ومعلوم، ما زالت عناصر الاشتباك خاضعة للتوقيت الإسرائيلي، غير المساءَل من قبل حلفائه، أو من قِبَل داعميه. هذا الواقع يجعل الحسابات الداخلية حسابات غير هادئة، وغير مطمئنة، مما ينذر بتعقيد "كياني" لاحق حول سؤال اليوم التالي اللبناني، فيجعله سؤال اليوم الراهن المتفجّر، الذي من "المنطقي" أن يحجب دويّ انفجاراته ما عداه من أصوات، أقلّه حتى حِين هدوء ما زال غير واضح الاحتمالات.
وقعُ العمليات الحربية، ميدانه الأوّل الجبهة الأمامية في مواجهة إسرائيل، وعلى أصدائه تبنى بقيّة الحسابات. حتى الآن، يدير العدو قتاله الحدودي حسب خطة متدرّجة هي أقرب إلى سياسات الاستكشاف والقضم، الاشتباك القريب مع المقاتلين اللبنانيين، له أكثر من هدف على ما تدل التطورات. من هذه الأهداف معرفة عناصر قوة المدافعين، وتفكيك وإزاحة عناصر هذه القوة، والسيطرة السريعة على الموقع الدفاعي، والتمركز فيه أو الانسحاب منه بعد تنفيذ مهمّة إزاحته.
يفيد هذا التكتيك القتالي العدو في أمرين أساسيين: أحدهما هو التمهيد بالنار على كامل الخط الأمامي، مما يجعل عملية تقدم القوات أسهل، والثاني، الاستمرار في قصف الخطوط الخلفية للمقاتلين، القريب منها والبعيد، في عملية إنهاك مبرمج، قبل مباشرة التوغّل البري الواسع. هذا على صعيد قتالي، أمّا على صعيد سياسي، فإن هكذا شكل من القتال، أي الموضعي والتمهيدي، يسمح للسياسي الإسرائيلي بالاستمرار في قصف كل ما يسميه مراكز إسناد وتذخير وإمداد، مثلما هو حاصل اليوم، وهذا من شأنه أن يطيل أمَدَ العدوان، وهذه الإطالة تبدو هدفاً مقصوداً من قبل النسق السياسي الإسرائيلي، بقيادة رئيس وزرائه بنيامين نتنياهو.
في مواجهة خطة العدو، ما الذي تملكه المقاومة الإسلامية، وما الذي يقع في مجال طاقتها وقدراتها، هذا من دون الذهاب إلى تضخيم هذه القدرة، من قبل المراقبين، ومن دون الدمج بين الهدف التعبوي والواقع الموضوعي، فما هو للتعبئة عالي السقف، وما هو للقتال الميداني محسوب بدقّة عالية.
لقد راهنت المقاومة الإسلامية على أثر قدرتها الصاروخية في داخل إسرائيل، وقد وضعت في حسبانها أن الخسارة البشرية والاقتصادية تلعب دوراً فاعلاً في الضغط على القيادة السياسية. هذا الرهان فقد الكثير من مقوّماته بعدما طالت الحرب وتمدّدت، ولعله يمكن القول أن الرأي العام الإسرائيلي بأكثريته، بات موافقاً، الآن، على صواب ما تذهب إليه قيادته السياسية. هنا يُطرح السؤال هل تلاشى أثر السلاح الصاروخي؟ الجواب بالنفي، لكن المطلوب إدراك حدود مفعوله، والمطلوب أيضاً، ادخاره لصالح المعركة البريّة، ففي البرّ سيكون "فَصْلُ الخطاب". على هذا الصعيد البرّي، وحسب ما بات في الحوزة، يواجه العدو قتالاً شديداً، ويجد في الجبهة الأمامية مقاتلين متمرِّسين... هذا ما تورده وسائل الإعلام الإسرائيلية وهذا ما يعوّل عليه، على الرغم من صدوره عن العدو، ذلك أن التغطية الإعلامية اللبنانية تفتقر إلى الدقة، وهذا يعود إلى غياب "المراسلين الحربيين" الذين يواكبون الحركة في الميدان، واقتصار الأمر على إعلاميين ينقلون ما يشاهدونه من مناطق مطلّة بعيدة.
في قراءة خطة العدو وقراءة خطة المقاتلين اللبنانيين، يظهر الفرق واضحاً، فالعدو لديه حريّة اختيار ومروحة أساليب، ربطاً بتعدد وتنوّع صنوف أسلحته، وكثرة عديده، مما يسمح له بالدمج بين مستويات عدّة من حركاته الميدانية، في إطار خطته العامة. أما المقاومة فليس لديها سوى الصمود في ميدان المواجهة المباشرة، طلباً لإنزال أوسع خسارة بشرية في صفوف القوات المهاجمة، وربطاً بهدف إطالة أمد القتال الذي قد يحرّك "ساكناً" أمميّاً يكسر الحجر الذي فرضته الولايات المتحدة الأميركية على كل صوت يطالب بإيقاف الهجمة العدوانية، والانصراف إلى المعالجة الديبلوماسية.
الاستنتاج الموضوعي من اللوحة أعلاه، يتلخص في عدم الاستخفاف بواقع تفوق العدو العام، وفي عدم تحميل المقاومين ما لا يستطيعونه، هذا يعني الاستعداد للتعامل مع نتائج سياسية سلبية، إذا ما مال ميزان المواجهة الميدانية سلبيّاً، والتعامل اللبناني السياسي، مع ما قد يأتي من سوء من جهة الميدان، يجب، ومنذ الآن، أن تقود السياسة الواعية نحو وحدة التشخيص السياسي في القراءة وفي المعالجة، بما يكفل أولاً صيانة مجمل المصالح اللبنانية العامة، وبما يجعل الخسائر محدودة، إن وقعت، وبما يقفل الباب في وجه انبعاث "التعصبات" الأهلية، فهذه لا دور لها سوى دور مفاقمة الخسائر، ودور إضافة ربح مجاني، إلى أرباح الهجمة العدوانية الإسرائيلية.
في السياق اللبناني، وفي غمرة القتال على الحدود، لم تظهر القوى اللبنانية ما يكفي من المسؤولية السياسية التي تطرحها الحرب الدائرة على الجميع، ومن دون استثناء. عدم الاستثناء يخص بالذكر المقاومة الإسلامية، ومن يقول قولها، هذا لجهة الخطاب السياسي نحو الداخل، ولجهة عدم إعلان ما لا يجب إعلانه، ولجهة طلب تفهّم النبرة التعبوية التي تذهب إليها، جنباً إلى جنب مع اللغة التوافقية، التي يجب أن نظنّ أنها معتمدة خلف ستار الإعلان.
أما قوى الاعتراض، أو المعارضة، لسياسات المقاومة ولسياسات ما يطلق عليه اسم "محور الممانعة"، فعليها واجب اشتقاق لغة داخلية فيها من مفردات "التصالح" والتوافق ما يكفي، وفيها من مفردات المصالح العامة ما يفيض عن لهجات الخصوصية التي من شأنها استثارة نزاع عام بين الخصوصيات. بعض التحديد مفيد في هذا المقام. المطالبة بتنفيذ بنود القرار 1701 تنفيذاً كاملاً على جانبي الحدود، شعار يحظى بما يشبه الإجماع بين القوى السياسية، لذلك ينبغي حشد هذه القوى خلف مطلب تنفيذ هذا الشعار، والسعي لدى كل من يمتلك القدرة على إعادة فرضه بعد أن تعرّض للخرق لسنوات طوال.
تجاوز مطلب القرار 1701 إلى سواه، أي إلى 1959 الآن، ليس أقلّ من مدخل نزاع وافتراق بين اللبنانيين، ولنسأل، هل من "الحكمة" طرح تنفيذ قرار يقضي بنزع سلاح المقاومة، والمعركة على أشدّها في الجنوب، والعدوان على اتساعه في أرجاء لبنان؟ ألا يسهّل هذا المطلب استدراج لغة تخوين، تنسب الصوت المطالب إلى مرتبة المساند للعدو في عدوانه، لجهة رغبات هذا العدو، ومساندة له في الوصول إلى أهدافه السياسية؟
في المقابل، على القوى السياسية عامةً، أن تدرك أن المعركة الحالية هي معركة "وجود" بالنسبة للأكثرية الشيعية، ويجب أن تلاحظ تلك القوى، أن الأمر تجاوز حزب الله إلى ما نغامر بالقول إنه "الشيعة" ككتلة أهلية مستنفرة، فإذا صارت مُستَفزّة لبّت الدعوة إلى مواجهة هذا الاستفزاز، هذا ليس تهويلاً، بل هو واقع تدعمه معاينة "مزاج" النازحين من ديارهم، الذين تتعالى أغلبيتهم على ما دفعته من أثمان.
فهم خصوصية ما يحصل، وما قد يحصل، وانعكاسه على مجمل المصير الوطني، يلقي على "الفاهمين" مسؤولية ابتكار لقاء واسع يضيف ويطور اللقاء الثلاثي الذي جمع الرئيسين نبيه برّي ونجيب ميقاتي والنائب السابق وليد جنبلاط. اللقاء تمثيلي، خاصةً في رمزه الشيعي، فرئيس المجلس يجمع في شخصه البعد الدستوري والبعد السياسي الداخلي والخارجي والبعد الشيعي... هذا البعد الأخير يجب أن ينتبه إليه المعنيون في هذا الظرف، فالرئيس برّي ما زال الأقدر، شيعيّاً، على استيعاب بيئته وعلى ترشيدها، وهو ووليد جنبلاط، ما زالا الرمزين "المخضرمين" اللذين يكادان يكونان وحيدين، في فهم ما تبقى من صيغة لبنانية، وفي عدم الاستهانة بأحكامها.
بقاء الصيغة والكيان، ووجود أهل هذه وتلك، يتطلبان بإلحاح وبالسرعة المطلوبة، وبالمسؤولية المأمولة، العمل لكبح العدوان، والعمل لتدارك آثاره الداخلية التي قد تكون أشد فتكاً من العدوان.