دستورياً: قرار الحرب والسّلم في لبنان بيد من؟
كُثرٌ ينظرون إلى هذه الفترة بوصفها حقبةً يدنو فيها لبنان مجدّدًا نحو هلاكه، متأرجحًا فيها من على جرفٍ شديد الانحدار. وفيما اختلف اللّبنانيّون بين بعضهم البعض حول المسؤول عن هذا الدنو الخطير، وعن اليّد التّي قد تدفعهم إلى الأمام، أو تنتشلهم من محنتهم الوجوديّة هذه.. قلّةٌ قليلة هي من تقيس الظرف الحاليّ بوصفه حتميةً تاريخيّة للإنتاج المشوّه للسلطة، ولانتهاء السّياسة، وانتفائها كمفهوم، وكتعريّة لحقيقة أساسيّة أن "الديمقراطيّة التّوافقيّة" المواربة التّي انبثق من صلبها النظام اللّبنانيّ الحالي واستمر بحجتها منذ العام 1989 وجدّدها عام 2008، هي محض صفقة، ساوم فيها الأطراف، على العمليّة الديمقراطيّة، مقابل الحفاظ الضمنيّ، على موازين القوى، التّي استفاد جميعهم منها من دون استثناء.
الحرب أو السّلم، التّورط أو النّأي بالنفس، الإدانة الرمزيّة أو الانحياز والانخراط العسكريّ، التّعاطف مع الضحايا، أو مساندتهم أو الثأر لأجلهم. عشرات البرلمانات والحكومات والهيئات الدوليّة، حول العالم تداعت منذ السّابع من تشرين الأوّل الفائت، للتباحث والاستنتاج واتخاذ هذا القرار تحديدًا، فيما بقيّ لبنان من على جرفه المنحدر، وعلى اعتصامه بالصمت الرسميّ، حتّى عندما طرقت الحرب أبوابه، وتوسعت إلى حدوده وداخلها. وهذا يقودنا للتساؤل التّالي: ما هو موقف لبنان الرسميّ، إزاء ما يحصل؟ وبمن هو منوط قرار السّلم والحرب؟ ولشدّ ما يبدو هذا السّؤال سورياليًّا وهزليًّا، إلا أنّه في الواقع يحمل تأريخًا وأرشفةً، لما نسيناه في خضّم السّجال الحاصل: دور السّلطة في كل ما يجري، وغيابها عن كل ما يجري.
الحكومة اللّبنانيّة
نذرٌ ضئيل هو ما صدر رسميًّا عن كل من الحكومة والبرلمان، عما يؤرق الشارع اللّبنانيّ منذ نحو الشهر، لا يتعدى خطة طوارئ يتيمة، لا تمويل لها حتّى اللحظة، نسبةً لعدم إمكانيّة الحصول على تمويلٍ دوليّ إذا ما تدخل حزب الله بالحرب، ونفاد أموال السّحب الخاصة من صندوق النقد الدوليّ التّي حصل عليها لبنان، ناهيك بعدم استعداد المصرف المركزيّ لصرف ما تبقى لديه من أموال الاحتياطي الإلزاميّ.. لحقتها جلسة يتيمة أيضًا للجان النيابيّة لم يحضرها رئيس الحكومة المستقيلة ولا وزير الدفاع ولا حتّى وزير الخارجيّة. وانتهت على سجالٍ أكدّت فيه الأكثريّة التّمثيليّة، عدم رغبتها باتخاذ موقف واضح وعلانيّ، بشأن التّورط بحربٍ مع الجانب الإسرائيليّ.
هذا بالإضافة لتصريحاتٍ صادرة عن رئاسة الحكومة المستقيلة بشخص رئيسها نجيب ميقاتي، الذي أشار لكون هذا القرار لم يعد مرتبطًا بالجانب اللّبنانيّ، بل بالإسرائيليّ، مع التّأكيد على ضرورة التّمسك بالقرار 1701 (عام 2006)، الذي غفلت الحكومة المستقيلة، عن المسار الطويل الذي يستلزمه تحقق هذا القرار، الذي ينضوي تحت مبدأ أساسيّ مُكرس وهو "الإستراتيجيّة الدفاعيّة" المقرون باستئثار القوى الشرعيّة والسّلطة اللّبنانيّة وحدها بالقوة العسكريّة.
السّلطة التشريعيّة- الرقابيّة
وفي هذا السّياق تُشير الخبيرة في القانون الدوليّ، المحاميّة ديالا شحادة، بالقول: "وعلى غرار سائر دول العالم، قرار السّلم والحرب، يعود للسّلطة التنفيذيّة والإجرائيّة، بشخص رئيس الجمهوريّة والحكومة، مع سلطة رقابيّة محدود للسّلطة التّشريعيّة، ولما كان الدستور اللّبنانيّ (وضمنًّا اتفاق الطائف) قد لحظ دور رئيس الجمهوريّة المسؤول عن سلامة كافة الأراضي اللّبنانيّة وصون سيادتها، وأن مجلس الوزراء مسؤول عن وضع السّياسات العامة وأيضًا القوانين، كقانون الدفاع الوطنيّ، وحالة إعلان الطوارئ، ووضعت الصلاحيات بعهدة السّلطات التّنفيذيّة. لكن الحاصل في لبنان، مختلف بحكم وجود "ميليشيا" لا تحتضنها القوانين، لكن البيانات السّياسيّة للحكومات المتعاقبة، شرع وجودها، وأعطاها شرعيّة، بذريعة مقاومة المُحتل الإسرائيليّ، وهذا لا يعني أنه وبالرغم من ذلك، يجوز لهذه "الميليشيا" التّفرد باتخاذ القرار، من دون الرجوع للسّلطة التنفيذيّة أو التّشاور معها حسب هذه البيانات أساسًا".
مُضيفةً: "لكن من هي الحكومة اليوم؟ هي المسيرة لمراجعها السّياسيّة، التّي يُشكل فيها حزب الله وحلفاؤه الأغلبية الراجحة، وليس من المفاجئ ألا يتخذوا موقفاً من الإجراءات التّي قد تجرّ لبنان إلى حرب ليست دفاعيّة عن لبنان، بالتّفسير القانونيّ. وهنا يقع على مجلس النواب، في ممارسة حقّه، في طرح أي سؤال عن الإجراءات التّي تتخذها الحكومة". معلقةً: "وطبعًا سندور في الدوامة نفسها، حيث أن وضع مجلس النواب لا يختلف عن نظيره في مجلس الوزراء".
المحامي علي عباس، أكد على كلام شحادة، الذي أشار بدوره أن السّلطة التّشريعيّة، منبثقة من الشعب، وتمثل الشعب كافةً، وإذا ما كان الشعب بغالبيته غير راضٍ عن الانجرار إلى حربٍ مع الجانب الإسرائيليّ، وخصوصًا في وضعه الحاليّ، فإن على السّلطة التمثيليّة ممارسة دورها الرقابيّ، الذي قد يصل إلى إسقاط الثقة عن الحكومة، لكن وفي حالتنا الحاليّة، حيث إن الحكومة مستقيلة، يستوجب على البرلمان مساءلة أعضاء هذه الحكومة، والحؤول دون تنفيذها إجراءات لا تُرضي من يمثله المجلس من الشعب. (إذا أردنا الأخذ أيضًا بالاعتبار الإحصاء الذي أجرته منظمة ستاتيستكس ليبانون، وتبين أن 73 بالمئة من اللبنانيين ضدّ دخول لبنان في الحرب). مُذكرًا أن الدستور والمعاهدات الدوليّة وضمنًا القرار 1701، يغلبون القوانين مرعيّة الإجراء، وبالتّالي فإن العودة إلى هذه النّصوص وعدم تجاهلها بهذه الطريقة هو الضروريّ جدًا في هذا الوقت.
الجهود البرلمانيّة
وانطلاقًا من هذا الواقع، ساءلت "المدن" مجموعة متنوعة (من حيث الكُتل والانتماءات) من أعضاء المجلس النيابيّ، الذي للآن لم يُمارس حقّه ودوره الرئيسيّ في مراقبة إجراءات الحكومة، علانيّةً بالحدّ الأدنى، وتساءلت عن الجهود "البرلمانيّة" حصرًا التّي بُذلت في سبيل تكريس موقف لبنان إزاء ما يجري على حدوده الجنوبيّة من جهة، وإزاء سيناريو تمدّد الحرب بين حركة حماس وجيش الاحتلال الإسرائيليّ وتوسعها لتصير حربًا داخليّة لبنانيّة، وطرحنا عليهم السّؤال، من دون أي تعديل، فجاءت مواقف النواب كالتّالي:
النائب بلال عبدالله عن كتلة اللقاء الديمقراطي (الحزب التقدمي الاشتراكي):
أشار النائب إلى "المدن"، إلى أن الموضوع ليس سجالًا قانونيًّا ودستوريًا وحسب، بل إنه سياسيّ بالصميم، لكن مع العقم السّياسيّ الحاليّ، والخلّل في انتاج المؤسسات الدستوريّة القويّة والفعّالة، يصير الحديث عن الدستور الذي يُستعمل غبّ الطلب مثاليًّا، نحن بالمبدأ طبعًا مع استئثار السّلطة اللّبنانيّة وضمنًا الحكومة حصرًا بقرار السّلم والحرب، لكن ليس لدينا حكومة كاملة، والمعطيات الميدانيّة تفرض نفسها بنفسها أمام عدو إسرائيليّ لا يرحم.
وأضاف: "من الصعب الحديث عن جهود الآن بعد كل الذي حاولناه على مدى سنوات، وبالتّالي لا ضرورة للحديث أساسًا عن الموضوع".
النائب حسين الجشي عن كتلة الوفاء للمقاومة (حزب الله):
اعتبر الجشي في حديثه، أن المعيطات الميدانيّة هي التّي ستُحدد مآلات الوضع الحاليّ الذي يتسع ويضيق، مؤكدًا على التزامه وضمن كتلته، بموقف حزب الله الرسميّ، بعدائه للجانب الإسرائيليّ المُتعدي منذ عام 1948. وأشار إلى أن الدستور (والمواثيق الدوليّة) يُستعمل حسب الحاجة، فعندما سُجل 17 ألف خرق من قبل العدو الإسرائيلي عند مجلس الأمن، لم يتحرك أي شخص، مضيفاً: "الآن ننزف شبابنا بعمر الورد على الحدود، لحماية لبنان، وتضامنًا مع أخوتنا في فلسطين وغزّة. لا حديث عن جهود تُذكر لتجنيب لبنان الحرب، بل المعيطات الميدانيّة هي التّي تُحدد".
النائب إبراهيم منيمنة:
استهل منيمنة حديثه بالإشارة لدور السّلطات اللّبنانيّة حصرًا في حماية الأرض والشعب، لكن الحكومة لم تقم بدورها في هذا المجال، خصوصًا أن لبنان قد يكون في حالة حرب مع إسرائيل، وهنا يجب التّأكيد أنّه وفي هذه الحالة وخصوصًا بحال الاعتداء الإسرائيليّ على لبنان، فإن عنصر الوحدة الوطنيّة هو الأهم واحتضان الناس والتضامن الشعبي الواسع، لكننا طبعًا ندعو حزب الله وكذلك الحكومة، إلى تحييد لبنان عن أي حربٍ مرتقبة، وعن أتون الحرب الذي سيعمق نكبة الشعب اللّبنانيّ، وتحييده أيضًا عن دوامة العنف وحماية لبنان واللبنانيين منها، كيفما كانت.
مُشيرًا: "نبذل جهوداً شتّى للضغط على الحكومة للقيام بدورها، لكن واقع الفراغ في ظلّ التّعطيل الحاصل لانتخابات رئيس جمهوريّة، وحكومة تصريف أعمال، تصبح المحاسبة محدودة الفعالية بالرقابة على السلطة التنفيذية. على كل حال سيأتي يوم نتحدث فيه عن الاستراتيجية الدفاعية وقرار الحرب والسلم ولكن الآن مطلوب وحدة وطنية.
فيما لم تعلّق النائبة بولا يعقوبيان سوى بالقول إنه لم يعد هناك أي دولة، بل "نحن كليًّا خارج منطق الدولة. لا نرتقي حتى أن نكون جمهورية موز".
النائب أنطوان حبشي عن كتلة الجمهوريّة القويّة:
أما حبشي فقد أكدّ على تضامنه الكامل والصادق مع أهالي غزّة، لكنّه بالوقت نفسه أشار إلى أن جرّ لبنان إلى حرب مع إسرائيل لا يُفيد البتة القضية الفلسطينيّة، معتبرًا أن قرار الحرب والسّلم يجب أن يكون حصرًا منوطًا بالدولة اللّبنانيّة، ولا يجوز بعد تجاوز هذا المبدأ، قائلًا: "نحاول ككتلة منذ عام 2005 وضع القرار الاستراتيجيّ في يدّ الدولة، وحصر السّلاح وشرعيته بها، وبالتّالي فإن أي اعتداءٍ قد يطال لبنان يواجهه ويصدّه الجيش اللّبنانيّ، ولا يحقّ لأي من المجتمع الدوليّ الاعتراض على فرضنا لسيادة دولتنا".
مستطردًا: "قد تكون الحكومة عاجزة أو متواطئة، لكنها اليوم خارج الصورة، لا يُمكن العمل بالنيات، وتكريس القرار 1701 ضروري، وعلى المجلس دعوة النواب للتباحث حصرًا في هذا الموضوع وفورًا، كما دعينا في آخر الجلسات النيابية، ونبذل جهودًا موصولة في هذا السّياق". خاتمًا: "من المخزيّ اليوم أن يكون قرار السّلم والحرب، مرميًّا على عاتقٍ غير عاتق الحكومة".
هذا ويُذكر أن "المدن" حاولت مرارًا الاتصال بأعضاء باقي الكتل، لكن لم تحظ بإجابة، وتحديدًا من أعضاء كتلة "لبنان القويّ" أي التيار الوطنيّ الحرّ، إذ لفت مكتب النائب سيمون أبي رميا عدم استعداده ورغبته بالتصريح أو التعليق بتاتًا عن هذا الموضوع، فيما لم يجب أي من الأعضاء الذين اتصلت بهم "المدن" مرارًا، على اتصالاتها. وهذا ما ينطبق على عددٍ من نواب حركة أمل.
إذًا، وبناءً على ما ذُكر آنفًا عن لسان ممثلي أبرز الكتل النيابيّة، قد يكون من الصعب فعليًّا تحديد الجهود النيابيّة (الرقابيّة والتشريعيّة) التّي بذلت ولو وجاهيًّا في سبيل تحييد لبنان عن نكبة أخرى، تطيح حتمًا بما تبقى من هذه الدولة المنكوبة أساسًا، لكن يبدو أن الأجدى الحديث عن تشتت هذه السّلطة وباقي السّلطات أكانت التنفيذية أو القضائيّة، والفراغ السّورياليّ في سدّة رئاسة الجمهوريّة، وانتفاء النيّة لعقد جلسات حوار ومفاوضات وجلسات تباحث حصريّة، تُلزم مختلف الأطراف على إيجاد مخرج للوضع الحاليّ، وبالتّالي ممارسة الدور الأساسيّ الذي يفرضه الدستور.
وهذا وحده تأريخ لهذه الحقبة، بوصفها المثال العيانيّ على فشل السّياسة اللّبنانيّة في المضيّ بركب بناء دولة، وانفلات السّلطة كما هو الحال على مدار تاريخ لبنان الحديث، وحصر القرار بمن يملك السلاح والميدان، لا بالإرادة الشعبيّة.