سعد الحريري يستسلم أم ينأى بنفسه عن مواجهة خاسرة؟
لانسحاب سعد الحريري من الحياة السياسية اللبنانية اليوم، أكثر من دلالة. وأكثر من تأويل. للخطوة أبعاد إيجابية في مكان. لكنها تخفي احتمالات مقلقة في مكان آخر.
الإيجابية تكمن في استسلام أحد أبرز أقطاب النظام اللبناني المتهاوي. فانسحاب الحريري يشكل أحد تداعيات أخطر أزمة ضربت نظام المحاصصة الذي قام بعد الحرب الأهلية: أزمة نضوب الموارد ووقف التمويل الخارجي وصولاً إلى الإفلاس.
الزعامات مهددة
لم يعد هناك موارد في الدولة ليُعاد توزيعها على الشبكات الزبائنية والمنتفعين. هكذا أصبحت هيمنة الزعامات مهددة بقوة. ومن سيحافظ على شيء من زعامته، لأسباب دينية وطائفية أو مناطقية وعشائرية، أو ملحمية ورمزية، سيتفرج عاجزاً على تآكل قوته ونفوذه، اللذين كانا يتغذيان من السطوة على موارد ومغانم الدولة ومن عملية إعادة توزيعها.
فخ مُحْكَم
هذا النظام ولّى عليه الزمن، وهناك من قرر عدم إطالة حياته. في مؤتمر "سيدر" 2018، وضع هذا النظام نفسه تحت رحمة التمويل الخارجي الذي لن يأتي بلا شروط. خلال ذلك المؤتمر الذي عقد في باريس برعاية فرنسية، وقع هذا النظام في فخ مُحْكَم. فمواقف وسلوك الدول المانحة أظهر أن لا أحد في الخارج يريد إعادة تمويل الدولة اللبنانية في ظل نظام كهذا.
كان شعارهم: "ساعدونا لمساعدتكم". أي لا تمويل من دون إصلاحات. ولا إصلاحات لأن طبيعة الإصلاحات المطلوبة كشروط مسبقة، تؤدي، إنْ طُبِّقَت، إلى الحد من إمكانية نهب الموارد وإعادة توزيعها. وبهذا المنحى، لا إصلاحات ولا تمويل ومساعدات دولية من دون تغيير سياسي. وهنا تكمن المعضلة. لأن القوى المسيطرة على السلطة أثبتت، منذ 17 تشرين وعلى الرغم من الانهيار، أنها لا تريد تسليم دفة القيادة لفريق حاكم جديد ومستقل عنها، علّه ينجح في تطبيق الإصلاحات وإنقاذ البلد. وخروج سعد الحريري غير كافٍ وحده للخروج من هذه المعضلة. وهذا ما يفتح باب التأويل أمام السيناريوهات السلبية والمقلقة.
من معضلة إلى أخرى
خروج الحريري قد يكون بالتالي توطئة للانتقال من هذه المعضلة إلى معضلة أكثر تعقيداً وخطورةً، إذا كان هناك استعداد لدى جهات خارجية لتمويل حرب أهلية بدل تمويل دولة النهب، وذلك بهدف محاولة النَيْل من حزب الله. أو قد يكون انكفاؤه مؤقتاً. أي أن الحريري قرر أن ينأى بنفسه عن جولة مواجهة جديدة (خاسرة) مع حزب الله. جولة مطلوبة من الخارج أيضاً. وهو يعرف مسبقاً أن مردودها قد يُوظَّف فقط لصالح اللاعبين الإقليميين والدوليين، الذين سيقومون بالتضحية بوكلائهم اللبنانيين على طاولة المقايضات الإقليمية والدولية، عند حصولهم على أوّل تنازل مغرٍ من خصمهم الإيراني في ميدان آخر.
تجارب سابقة
فلا يمكن لأحد أن ينسى انفتاح الرئيس الفرنسي الأسبق، نيكولا ساركوزي، على بشار الأسد عام 2008، انطلاقاً من حسابات (خاطئة) تتعلق بالمصالح الفرنسية في سوريا والشرق الأوسط. برر الفرنسيون استدارتهم آنذاك بذريعة أن الأسد تنازل ووافق على تبادل التمثيل الدبلوماسي مع لبنان، وأوقف الاغتيالات. كذلك، لا يمكن لأحد أن يتجاهل انفتاح السعودية على الأسد عام 2009، مع أن دوافعها الأساسية تمثلت بمحاولة (فاشلة) لإبعاد النظام السوري عن إيران.
لكن في النتيجة، أثبت كل ذلك وجود استعداد لدى اللاعبين الإقليميين والدوليين لإبرام تسويات أو تفاهمات، حتى لو كان ثمنها الإفلات من العقاب، ومزيد من إضعاف الحلفاء أو الوكلاء المحليين في المحصلة.
القرار 1559 والمستنقع
يجري الحديث اليوم عن سقف جديد للصراع السياسي اللبناني، ترتسم معالمه مع الشروط السعودية-الخليجية والدولية الواردة في الرسالة التي سلمتها الكويت للبنان أخيراً.
وكأنه لا يمكن القبول بأقل من مواجهة تتخذ من تطبيق القرار 1559 وحصر السلاح بيد الدولة شعاراً لها. فيشهد لبنان تصعيداً سياسياً جديداً ضد سلاح حزب الله. ويدخل البلد مجدداً في دوامة.. لا أحد يعرف كيف ومتى وبأي أثمان ونتائج داخلية ستنتهي. والأخطر من كل ذلك يتمثل في احتمال دفع لاعبين لبنانيين إلى القيام بحسابات خاطئة فيدخلون في مواجهة غير متكافئة مع خصم ذي خبرة، يتمتع بخطوط إمداد استراتيجية لمحور "الممانعة". أي زجّهم في مستنقعٍ تُفَضِّل جيوش عظمى عدم الغرق فيه.
من معضلة كان لسعد الحريري إسهام في تفاقمها، إلى معضلة اختار أن يكون في موقع المتفرّج على تفاعلاتها، ينتقل لبنان في رحلة عاصفة، مستسلماً لعملية تحويله من جديد إلى ورقة رابحة لهذا اللاعب الإقليمي أو ذاك، على حلبة صراع لا يرحم الصغار، أو على طاولة مفاوضات لا أحد يكترث فيها لمصير الدولة اللبنانية وسكانها.