اللامركزية والفيدرالية كالنظام المركزي: لبنانهم فساد ومغانم بالحالتين
أي صيغة يريد اللبنانيون؟ وهل من رابط سببي بين تغيير الدستور والتحوّل من دولة ضعيفة إلى دولة قوية؟ من دولة الفساد والمغانم إلى دولة القانون والمؤسسات؟ أي التحوّل من دولة خاضعة لسلطة مجموعات المصالح الخاصة والمليشيات والقوى الخارجية، عاجزة عن تأمين الخدمات العامة الأساسية، لا تُطبّق فيها القوانين، تُعطّل فيها المؤسسات.. إلى دولة قوية، مستقلة، سيدة، تتمتع بجهاز إداري مستقل عن الزعامات السياسية والتقليدية، تسهر على تحقيق الصالح العام بعيداً من هيمنة أصحاب المصالح الخاصة؟ هل من رابط سببي بين الدستور الجديد وتحسين الوضع الاقتصادي والاجتماعي وتحقيق الازدهار؟ وهل اعتماد اللامركزية الإدارية أو الفيدرالية أو حتى التقسيم، يخلّص اللبنانيين من هيمنة المافيات التي تتحكم بمقدرات الدولة، وسلبت ودائعهم المصرفية في أكبر عملية احتيال وإذلال، تكاد تكون غير مسبوقة في التاريخ؟
لا تتمثل الغاية من طرح هذه الإشكالية في نفي ضرورة اللامركزية، ولا في التقليل من أهمية الفيدرالية كصيغة فعّالة لإدارة المجتمعات المتنوعة. بل لتجنب الأوهام وخيبة الأمل.
نقاش وتوتر
يظهر النقاش عبر وسائل الإعلام المختلفة أن هناك توتراً لدى الفيدراليين في لبنان. توتر يَحُول دون قدرتهم على الإقناع من هم أصلاً غير مؤيدين للفكرة الفيدرالية. وفي العملية التواصلية، يشكل الانفعال والتوتر عقبتين أساسيتين في عملية الإقناع المتبادل. أكثر من ذلك، هناك انطباع سائد بأن الفيدراليين اللبنانيين لا يتقبلون النقد، حتى عندما يكون بنّاءً. في المقابل، ثمة من يخوّن الفيدراليين ويشيطنهم بوصفهم "عملاء" يخدمون "أجندات أجنبية ومشبوهة". لكن بين المدافعين عن المشروع الفيدرالي وبين معارضيه، لا بد من بروز صوت ثالث، قد يختلف في الرأي والتقدير مع الفيدراليين لكن لا يشيطنهم.
البحث عن حل
فمن يطرح المشروع الفيدرالي حلاً للمشكلة اللبنانية المستعصية، إنما يطرحونه لتجاوز أزمة نظام تشارك السلطة بين الطوائف. وهو نظام يتسم بتعطيل مزمن لعمل المؤسسات ولعملية صنع القرار التنفيذي خصوصاً، وبالمحاصصة بين زعماء الطوائف الذين يستغلون النظام الطائفي لتجنب أي مساءلة ومحاسبة.
ولهذا المشروع حجج متينة أيضاً. إحداها تقول إن الخلافات بين الطوائف تسبب أحياناً بحرب أهلية، كما حصل عام 1958 ثم عام 1975. وأخرى تفيد أن التناحر الطائفي الدائم سبب في ضعف الدولة. فتأتي الفيدرالية لتضع حداً للخلافات والتناحر، مما يقوي الدولة.
إنجازات للشعب؟
وثمة اعتقاد بأن إعادة صوغ العلاقات السياسية بين الطوائف على أسس فيدرالية، من شأنها أن تُقلّص هامش التحرك لدى الزعماء والحكّام التقليديين. أي يضطر هؤلاء إلى تقديم إنجازات للشعب، فلا يعود بإمكانهم التذرع بالنظام المركزي الطائفي لتبرير فشل السياسات العامة وتدهور الخدمات العامة، أو لتبرير غياب الحوكمة الرشيدة والعدالة الاجتماعية. وفق هذا المنظور المتفائل، لن يعود بمقدور الحكام، زعماء الطوائف، التهرب من مسؤولياتهم. ويكونون مجبرين على إدارة الشؤون العامة بما يخدم الصالح العام في المحصلة. وإلا يحاسبهم الجمهور في صناديق الاقتراع. وإذا أمعنوا في الفساد، تحاسبهم السلطة القضائية.
هذه المقاربة ليست غير منطقية. ورغم أن النتيجة المأمولة غير مضمونة، يمكن للبعض أن يفضل التجريب. فما الذي يخسره المرء من التجريبية في بلد انهار فيه كل شيء؟ لكن لا يجوز الاستخفاف بفكرة أن هذه النتيجة الإيجابية المنتظرة قد تكون غير قابلة للتحقق في بلد مثل لبنان، لا تُنْتِج بنيته الاجتماعية والاقتصادية إلا أشكالاً مشوهة من العمل السياسي وإدارة الشؤون العامة وقيادة المؤسسات الدولتية.
عِلَل الحُكْم في لبنان
فهذا البلد مفرط في ليبراليته اقتصادياً، لكن العملية السياسية فيه غير ليبرالية، رغم وجود عملية انتخابية ديمقراطية في الشكل. أساليب الحكم فيه لا تشبه تلك المطبقة في الليبراليات الغربية. عِلَل الحُكْم في لبنان تتمثل في الغنائمية والزبائنية والنفعية ومحاباة الأقارب، وفي الفساد والإهمال وانعدام المحاسبة.
وهذه التشوهات موجودة لأن تحالفاً مهيمناً يقوم بين كبار التجار ورجال الأعمال والمصرفيين والمقاولين الفاسدين والزعماء السياسيين التقليديين، ويحقق مصالح المتحالفين الخاصة. وهذا التحالف المافياوي لن يحكُم الولايات في الدولة الفيدرالية، أو لن يترك السلطات المحلية في ظل نظام لامركزي تحكُم بطريقة مختلفة وأفضل من تلك التي اعتُمِدَت في ظل النظام المركزي اللبناني.
النظام الريعي
هذا التحالف المتحكم بالسلطة في لبنان يريد أن يحافظ أيضاً على النظام الريعي. ويراهن على العائدات النفطية المنتظرة والموعودة لإعادة ضخ الدم في شرايين هذا النظام، بعد انهيار القطاع المصرفي وما كان يوفره من فوائد ومداخيل. إحدى الممارسات التي كرسها هذا التحالف، وهي واحدة من سمات النظام الريعي، تتمثل في تكريس دخول الزعماء السياسيين وأصحاب النفوذ، بالإلزام وبقوة الأمر الواقع و"البلطجة"، كشركاء في مشاريع استثمارية خاصة للاستفادة من عائداتها. ويحصل كل ذلك في ظل عدم اعتماد نظام ضريبي فعّال وعادل.
وهذه الممارسات والتشوهات لا تمت بصلة إلى الليبرالية. ولا يكفي تغيير شكل الدولة للحد منها والقضاء عليها. بل إنّ وضع حد لها يمثل شرطاً مسبقاً قبل الانخراط في ورشة تغيير شكل الدولة.
زبائنية وانتفاع وشراء الولاءات
هذا التحالف المافياوي عمّم الفساد ونهْب المال العام، لكنه كرس أيضاً معادلة استخدام موارد الدولة بما يخدم المصالح الخاصة، عبر العقود والصفقات المبرمة مع الأقرباء والمقربين والأزلام. وهذه ممارسة معتمدة على مستوى محلي في البلديات، وعلى مستوى مركزي في الوزارات وإدارات الدولة. ومن أجل ضمان إعادة تجديد شرعيتهم في صناديق الإقتراع، يموّل أركان هذا التحالف شبكاتهم الزبائنية من خلال إعادة توزيع جزء من أموال الريع والفساد وجزء من الغنائم على المنتفعين والموالين، فضلاً عن تسخيرهم الوظيفة العامة أداة لشراء الولاءات والأتباع. وهذا ما يؤدي إلى اعتماد النفعية معياراً لتصويت قسم وازن من الناخبين، بدلاً من معيار الأداء في الحكم والبرنامج الانتخابي. وهكذا تنسف فكرة المواطنة عن بكرة أبيها، لأن المواطن لن يمارس حقه في المساءلة والمحاسبة. بل يصوت للحاكم نفسه، بسبب علاقة التبعية والولاء المكرسة بين المحكومين والحكام.
دخلاء جدد في زمن الانهيار
في زمن الانهيار اللبناني اليوم، تبرز ظاهرة شراء الولاءات، ليس من قبل الزعماء والسياسيين التقليديين فحسب، بل من قبل دخلاء جدد على الساحة. يتعلق الأمر برجال أعمال وأثرياء يتكفلون بتسديد أقساط المدارس الخاصة وفواتير صحية مختلفة...، باتت تفوق قدرة عدد كبير من المواطنين في مناطق مختلفة.
أما هدفهم فيتمثل بالدخول إلى المعترك السياسي وربما إلى البرلمان. فهل هناك ضمانات بأن هذا الواقع يتغير في حال اعتماد اللامركزية الإدارية أو النظام الفيدرالي أو حتى التقسيم اليوم؟
تغيير الزعماء قبل تغيير شكل الدولة
يتعامل كل زعيم، نافذ وفاسد، مع فكرة الدولة والشؤون العامة وفق عقلية غنائمية، ويعطل القرارات الحكومية في النظام المركزي، نظام "الطائف"، لأسباب لا تتصل بمصالح طائفته بقدر ما تتعلق بمصالحه الخاصة أو بمصالح وكلائه الخارجيين. ولن يُسمح لمجلس مناطقي منتخب في نظام لامركزي، أو لحكومة ولاية في النظام الفيدرالي، أن يتخذ أو تتخذ قرارات تتضارب مع هذه المصالح. لا يجوز التقليل من دقة هذه الفرضية الخطيرة، في مجتمع تسود فيه تقاليد تمجيد الزعيم وعبادة الفرد والتوريث السياسي، لدى المسيحيين والمسلمين.
فهذا الزعيم، سواء كان مسيحياً أو مسلماً، لن ينصاع لحكم القانون بمجرد تغيير الدستور اللبناني. بل يستغل نفوذه وإمكاناته من أجل التحكّم بالنظام الجديد والالتفاف على القوانين الجديدة. وسوف يستميت من أجل الحفاظ على زعامته. ويدافع عن مصالحه الخاصة ومغانمه، كالعادة، بلا أي رادع أخلاقي. ويفرض هيمنته على السلطات الرسمية وعلى قراراتها، سواء كانت الدولة لامركزية أو فيدرالية. والحال أن المشكلة لا تكمن في تغيير شكل الدولة، بل في أن يتم هذا التغيير في ظل هيمنة القوى الاجتماعية والسياسية نفسها القادرة على التكيّف مع أي صيغة جديدة من أجل تثبيت هيمنتها على مقدرات ومفاصل الدولة.
بمعنى آخر، لا بد من تغيير الزعماء ورفع هيمنة ذلك التحالف المافياوي المتحكم بالسلطة، قبل تغيير شكل الدولة. وإلا، سوف ينتقل لبنان من نظام ريعي وغنائمي مركزي، إلى لامركزية ريعية وغنائمية، أو إلى فيدرالية ريعية وغنائمية.