ماكرون في السعودية: إعادة الملف اللبناني إلى المربّع الأول
تمكّن الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، من فتح كوّة في جدار الأزمة بين لبنان والسعودية، وربما أكثر. سجّل خرقاً دبلوماسياً لا بأس به حين أعاد فتح خطوط التواصل المباشر بين الرياض وبيروت. تحقق ذلك من خلال الاتصال الهاتفي، يوم السبت 4 كانون الأول 2021، بين الرئيس ماكرون وولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، أثناء لقائهما في "قصر السلام" في جدة، ورئيس الوزراء اللبناني، نجيب ميقاتي.
هذه الخطوة لا تندرج، على الأرجح، في خانة الاستعراض الإعلامي أو الإنجاز الصُوَري. ثمة ما يبشّر باستدارة محتملة، قد تقوم بها الدبلوماسية السعودية التي كانت حتى الأمس شبه غائبة عن مسار المساعدات الدولية الطارئة، الذي أطلقته فرنسا بعد تفجير المرفأ في 4 آب 2020. فالبيان الفرنسي-السعودي المشترك، الذي صدر في ختام المحادثات بين ماكرون وبن سلمان، يَذْكُر، في ما يتعلق بلبنان، أن الطرفين "اتفقا على إنشاء آلية سعودية-فرنسية للمساعدة الإنسانية في إطار يكفل الشفافية التامة". ويؤكد "عزمهما على إيجاد الآليات المناسبة بالتعاون مع الدول الصديقة والحليفة للتخفيف من معاناة الشعب اللبناني". الحديث عن إطلاق "آلية" مشتركة للعمل، يفترض حصول تحوّل ما في تعاطي السعودية مع الملف اللبناني.
وقف التصعيد.. والمساهمة بالمساعدات الطارئة
بهذا المنحى، من غير المستبعد أن يتوقف التصعيد السعودي العقابي. قد يُترْجم ذلك بإعادة فتح الأسواق السعودية أمام الصادرات اللبنانية، وبعودة العلاقات الدبلوماسية بين لبنان والسعودية وبقية دول الخليج التي تضامنت مع الرياض، إلى طبيعتها. أي إعادة إرسال السفراء الخليجيين إلى بيروت، والسماح بعودة السفراء اللبنانيين إلى العواصم الخليجية. ولا شيء يحول دون أن يُستَتْبَع ذلك الاتصال الهاتفي بزيارة ميقاتي شخصياً إلى السعودية للقاء بن سلمان. وقد تنخرط السعودية فعلاً، وعلى نطاق أوسع، إلى جانب فرنسا ودول أخرى في مسار الدعم الإنساني المباشر للشعب اللبناني وربما للجيش اللبناني.
وساطة واستجابة
في حال تحقق كل ذلك، تكون الدبلوماسية الفرنسية قد أثبتت مهارتها في الاضطلاع بدور الوسيط في الشرق الأوسط، وفعاليتها في إنجاح وساطتها الدبلوماسية. وتكون الدبلوماسية السعودية قد أظهرت مرونتها وأبدت استعدادها لتدوير الزوايا والتعاون البنّاء مع فرنسا. لكن هذا "الإنجاز" الذي سيُسجّل لماكرون، يجب ألا يدفع الحكام اللبنانيين إلى الشعور بالنشوة. أو الاعتقاد بأن الحلحلة المحتملة للأزمة التي تسببت بها تصريحات جورج قرداحي، سيتبعها انفراج بشأن المساعدات المالية الدولية للدولة اللبنانية. فهذه المساعدات كانت مشروطة منذ مؤتمر "سيدر" عام 2018. ولا تزال الشروط على حالها، بل ربما زادت.
"ساعدوا أنفسكم لنساعدكم"
كل ما فعله ماكرون في السعودية والخليج يتمثل في إعادة مسألة التعاطي الدولي والخليجي مع الملف اللبناني إلى المربع الأول: فرنسا هنا، والعالم هنا، والسعودية ودول الخليج هنا، لكن ساعدوا أنفسكم لنساعدكم. طبقوا الإصلاحات البنيوية الشاملة المطلوبة منكم حتى نُقدّم للدولة مساعدات مالية ضرورية لإعادة النهوض الاقتصادي. هذه الرسالة واضحة وضوح الشمس في البيان الفرنسي-السعودي المشترك الذي ورد فيه أن الجانبين يشددان "على ضرورة قيام الحكومة اللبنانية بإجراء إصلاحات شاملة، لا سيما الالتزام باتفاق الطائف المؤتمن على الوحدة الوطنية والسلم الأهلي في لبنان، وأن تشمل الإصلاحات قطاعات المالية والطاقة ومكافحة الفساد ومراقبة الحدود".
بهذا المعنى، لا يزال تطبيق الإصلاحات شرطاً مسبقاً لحصول لبنان على مساعدات مالية دولية وخليجية. وهذا يفترض أن المعضلة لا تزال قائمة منذ المراوحة والمراوغة اللبنانية، التي حالت دون حصول البلد على مساعدات بقيمة 11 مليار دولار، كان أقرها مؤتمر "سيدر". إذ كيف يمكن للطبقة الحاكمة المسؤولة عن تعميم الفساد والمستفيدة من النظام الزبائني والغنائمي والفاسد في لبنان، أن تُنفّذ إصلاحات من شأنها إضعاف هيمنتها وفتح الباب أمام مساءلتها ومحاكمتها؟
سلاح حزب الله: شرط مسبق؟
بالإضافة إلى شرط الإصلاحات، ثمة شرط آخر يلوح في الأفق ربما. فالبيان الفرنسي-السعودي المشترك يؤكد على "ضرورة حصر السلاح بمؤسسات الدولة الشرعية، وألا يكون لبنان منطلقاً لأي أعمال إرهابية تزعزع أمن واستقرار المنطقة، ومصدراً لتجارة المخدرات". وهنا، يستهدف البيان حزب لله وسلاحه ودوره المحلي والإقليمي. وهذه الإشارة إلى إشكالية حزب الله تدفع إلى التساؤل عما إذا كانت تعبّر عن موقف سياسي تقليدي لكل من فرنسا والسعودية أم عن شرط إضافي يجب تلبيته قبل الإفراج عن المساعدات المالية الدولية للبنان؟ قد لا تكون الدبلوماسية الفرنسية متمسكة بمطلب نزع سلاح حزب الله كشرط مسبق للمساعدات بقدر تمسك الدبلوماسية السعودية فيه. لكن ورود هذا الموقف في البيان المشترك يعكس مسايرة فرنسية للرياض، لن يكون من السهل التغاضي عن موجباتها في المستقبل.
دعم الجيش واحتواء النفوذ الإيراني
ثمة ملاحظة أخرى يمكن تسجيلها أيضاً. وهي تتعلق بما هو بأبعد من تشديد ماكرون وبن سلمان على "أهمية تعزيز دور الجيش اللبناني في الحفاظ على أمن واستقرار لبنان"، حسب ما ورد في البيان المشترك. قد لا يؤدي هذا الموقف تلقائياً إلى إعادة انضمام السعودية إلى جهود دعم الجيش اللبناني وتمويله، أو العودة فوراً عن قرار وقف صفقة شراء أسلحة فرنسية بقيمة 3 مليارات دولار لصالح هذا الجيش، وهو قرار اتخذته الرياض عام 2016. لكن من المرجح أن يكون ماكرون قد أقنع السعوديين بأن منهجيتهم العقابية تؤدي إلى نتائج عكسية، وبأن أفضل طريقة لاحتواء النفوذ الإيراني في لبنان تتمثل في الدبلوماسية والتهدئة والاستقرار وليس في التصعيد وإثارة التوتر. لأن الدور الإيراني يستفيد من تأجيج الصراع وليس العكس، بينما يمكن للتهدئة والتفاهمات والتسويات أن تخدم استراتيجيات احتواء النفوذ الإيراني وتأمين التوازن معه، على المدى البعيد خصوصاً. ومفتاح هذا التوازن يتمثل في الحفاظ على مكانة الجيش اللبناني ودوره.
من شأن الأيام المقبلة أن تُظْهِر ما إذا كان الأمر يتعلق بموقف شكلي أم سيتبعه خطوات سعودية ملموسة. لكن من المفترض ألا تقبل فرنسا بأن يبقى البيان المشترك حبراً على ورق. لا بد من أن يُتَرْجَم بتعديل سياسة السعودية حيال لبنان، وإعادة رمي الكرة في ملعب حكّام هذا البلد، من دون التوهم بأنهم سيُلَبُّون الشروط، كل الشروط الدولية والخليجية.