سينصف التاريخ حزب الله.. وسيلعنه أيضاً
حرّر حزب الله الأراضي اللبنانية في الجنوب والبقاع الغربي من الاحتلال الإسرائيلي عام 2000. من يختلف سياسياً وعقائدياً معه يقرّ بدوره في تحقيق هذا الإنجاز. حتى من يعاديه، أو من يختلف مع مقاربة المقاومة من أساسها وبحد ذاتها، لا يمكنه أن ينكر تأثير العمليات المسلحة على جيش الاحتلال، على الرغم من توظيف النظام السوري للمقاومة كورقة على طاولة التفاوض مع إسرائيل. التحرير عام 2000، وبناء القدرة الدفاعية الردعية التي جُرِّبَت في حرب 2006، ساهما في أن يحجز حزب الله مكاناً له في التاريخ.
رغم كل شيء
على الرغم من الخلاف الكبير حول سلاح الحزب ومسألة تسليمه للجيش اللبناني، وإعادة بسط سلطة الدولة على كامل أرضها. وعلى الرغم من امتناع الحزب عن الدفع قدماً نحو إنجاز استراتيجية دفاعية وطنية، تستفيد من الإمكانات التي بناها، وتطوي صفحة السلاح غير الشرعي في لبنان. وبالرغم أن القوّة التي يتمتع بها الحزب، والتي أتاحت تحقيق إنجاز التحرير والاضطلاع بمهمة الردع، هي بجزء كبير من صنع دولة أجنبية، أي إيران التي توظف حزب الله كأداة في خدمة مشروعها التوسعي في الشرق الأوسط. ومع أن الحزب احتكر المقاومة، وبالقوة، مما أثار تحفظات بشأن تفرده بها، وأعطى لهذه الظاهرة المشروعة في القانون الدولي، بُعداً طائفياً غير منسجم مع متطلبات الوحدة الوطنية في مجتمع تعددي. وبالرغم من اشتباه البعض بتورطه باغتيالات، أو بعمليات تهريب مخدرات وتبييض أموال. ورغم دوره المثير للجدل وللنقمة في سوريا والعراق واليمن..
على الرغم من كل شيء، سينصف التاريخ حزب الله على دوره وفضله في التحرير والردع. لكن هذا التاريخ سيلعن حزب الله أيضاً. وذلك بسبب دوره في السياسة الداخلية، ولا سيما في إدارة أزمة لبنان الداخلية، التي بدأت تخنق المواطنين إلى درجة لم تعد تُحتَمل، في حين أن الحزب لا يتردد في تعطيل حكومة أُوكِلت إليها مهمة فرملة الانهيار وتجنب الارتطام الكبير فقط.
مسوّغ اللعنة
الحديث عن هذه المفارقة في كتاب التاريخ ليس تحاملاً على الحزب. فأداؤه هو الذي جلب له الإنصاف وسيجلب له اللعنة. وكلما ازدادت الظروف مأساويةً، وكلما تفاقم الوضع الاجتماعي والإنساني، يزداد حكم التاريخ حزماً وصرامةً.
كان من الممكن الاكتفاء بنقد دور الحزب ومساءلته ومحاسبته عندما ساهم في الدفاع عن النظام اللبناني الغنائمي الفاسد بوجه الهبّة الشعبية الساخطة في 17 تشرين الأول 2019. كان من الممكن الاكتفاء بتوجيه لوم شديد له وإدانته على دوره المحوري في إفشال عملية تشكيل حكومة مصطفى أديب والمبادرة الفرنسية الإنقاذية في أيلول 2020. لكن اليوم، مع تدهور الوضع المعيشي وتعميم الفقر والبؤس وانتشار العوز، واعتيادية مشهد إذلال المواطنين وإهانة كراماتهم الإنسانية، لم يعد من الممكن الاكتفاء بالنقد واللوم. والتحليل لن يصل إلى خواتيمه مقتصراً على توجيه الاتهام وتحميل المسؤولية ثم المحاسبة في صناديق الاقتراع. أما التشخيص فلا ينطوي على تحامل أو تضليل، إذا تم تحميل حزب الله مسؤولية غياب أي دينامية حل للأزمة، شأنه شأن كل مكونات الطبقة الحاكمة و"حزب المصارف" ورجال الأعمال الفاسدين والتجار المحتكرين. والوضع بات خطيراً إلى درجة لم تعد تنفع معه أجراس الإنذار التي لا يزال يقرعها بعض محبي الحزب ومريدي الخير له بين الحين والآخر. الوضع بات بشعاً ومقرفاً ولا إنسانياً وظالماً، على نحو بات يستحق رد فعل مفصّلاً على قياسه. لم يعد هناك مفر من اللعنة إذاً.
مسؤولية مشتركة
سواء تعلق الأمر بعملية صنع القرار الحكومي أو بتعطيل عمل الحكومة، يتحمل حزب الله قسطه من المسؤولية في الحالة الأولى كونه شريكاً في سياسات الحكومات اللبنانية المتعاقبة. ويتحمل مسؤولية أساسية في الحالة الثانية، لأنه يربط الإفراج عن اجتماعات الحكومة اليوم بكف يد المحقق العدلي بجريمة تفجير مرفأ بيروت، القاضي طارق البيطار، في انتهاك صارخ لمبدأ فصل السلطات وخصائص النظام الديموقراطي.
تعطيل مثير للشبهات
وهذا التعطيل بات يثير الشبهات حول نوايا الحزب. هل لديه مشروع غير معلن، سيطرحه وسينفذه بعد تحلل الدولة وتدمير ماليتها العامة والخدمات العامة وتعميم الفقر والبؤس؟ ما هو هذا المشروع ولماذا لا يجاهر به علناً؟ لماذا لا يقول حزب الله للبنانيين بكل صراحة: أي دستور يريد وأي نظام سياسي يريد وأي صيغة للدولة يريد، لكي يبدأ حواراً جدياً حول مستقبل لبنان ومصير العيش معاً فيه؟ مصارحة علنية كهذه باتت أكثر من ملحة، لاختصار فترة معاناة اللبنانيين في حياتهم اليومية، ولتجنيبهم المزيد من الويلات، وبدء عملية إعادة النهوض.
أم أن سلوكه التعطيلي لعمل مؤسسات الدولة يندرج في خانة التصعيد الإيراني في الإقليم بموازاة المفاوضات النووية في فيينا مع الولايات المتحدة الأميركية؟ فيُضَحّي هكذا بحياة ورخاء شعب على مذبح مصالح دولة أجنبية؟ وحتى لو كان للتعطيل دوافع داخلية بحتة، ألا توجب عواقبه الوخيمة تسهيل الانفراج وإعادة تشغيل ماكينة الحكومة من أجل محاولة وقف الانهيار المالي والاقتصادي والاجتماعي أو الحد من تداعياته الكارثية؟
لا أوهام
لا أحد ينتظر من حكومة نجيب ميقاتي تحقيق المعجزات. ولا أحد يتوهم بقدرتها على إيجاد حل للأزمة المصرفية من أجل إعادة الودائع لأصحابها. والجميع يدرك أن إعادة بناء دولة قوية، دولة القانون والعدالة الاجتماعية، هي مهمة مؤجلة إلى حين التخلص من نظام المافيات الحاكمة.
لكن أي حل جزئي، وأي برنامج مساعدة طارئ يضعه صندوق النقد الدولي بالتنسيق مع الحكومة، يبقى أقل سوءاً من ترْك الناس يعانون من غلاء المعيشة نتيجة تفلت سعر صرف الدولار، وتركهم فريسة للتجار والمحتكرين ومافيات المياه والكهرباء في الإدارات العامة وأصحاب المولدات الكهربائية وصهاريج المياه والمستشفيات الخاصة...
فلماذا يمضي حزب الله بممارسات تؤدي إلى عرقلة أي حل وأي انفراج، حتى ولو كان دون المطلوب، علماً بأن هذا التصرف يجلب له اللعنة؟
معاينة التاريخ اللبناني منذ عام 2000 وحتى اليوم، ستظهر أن حزب الله أضاع فرصاً كثيرة لإعادة بناء دولة القانون والمؤسسات، دولة كاملة السيادة وغير فاسدة في لبنان. وسيحكم عليه التاريخ كما حكم على القوى السياسية التي عرقلت مسار بناء الدولة القوية لصالح هيمنة مجموعات المصالح الخاصة. وإذا كانت أسطورة كل حزب أو كل زعيم وبطولاته خلال الحرب، ستجعل التاريخ ينصفه بمكان، إلا أنها لن تحول دون أن يلعنه التاريخ بمكان آخر. فالتاريخ لا يرحم المتقاعسين والمتواطئين والمعطلين الذين ارتكبوا "جريمة متعمّدة" وأوصلوا لبنان وحياة اللبنانيين إلى كل هذا الدمار والعذاب والظلم.