منظمة العمل الشيوعي تنعي قائدها محسن ابراهيم
رحل مساء الأربعاء 3 حزيران، الماركسي القومي العربي، محسن ابراهيم، رفيق ياسر عرفات وكمال جنبلاط وجورج حاوي. أحد آخر رموز الحقبة الثورية التي دمجت بين التحرر القومي والنهج الاشتراكي.
إنه اليساري العريق، الذي كان انكفاؤه بياناً بليغاً في التعالي فوق انحطاط السياسة يميناً ويساراً، قومياً ووطنياً. المبدئي الذي جعل السياسة برنامجاً. والمحنك الذي أحال كل مبدأ إلى بداهة واقعية.
إنه القومي العربي، الذي جعل من نفسه جزائرياً وفلسطينياً ويمنياً ولبنانياً من غير حدود ولا التباس. والشيوعي الذي تمرد منحازاً إلى قيمة الديموقراطية والاستقلال.
وقد يكون ابراهيم، أشد المخلصين لذاك التاريخ القومي واليساري.. لكنه، بلا شك، أوضح ناقدي هذا التاريخ، وأفضل المعبّرين عن الخطأ والصواب. بل إن ابتعاده عن السياسة العامة وفضائها العلني منذ التسعينات، كان أشبه بخطاب نقد، لا للماضي وحسب.. إنما رفضاً لشروط الفضاء المسموم الذي فرضته "الوصاية" السورية على لبنان.
بهذا المعنى، كان "أبو خالد" أحد القلائل الذين "احترموا" أنفسهم وماضيهم.. وعقول الناس.
هذا، وقد نعت منظمة العمل الشيوعي "إلى الشعب اللبناني والشعوب العربية أمينها العام محسن ابراهيم، الذي وافته المنية بعد عمر مديد أمضاه من دون انقطاع في خدمة القضايا الوطنية والقومية".
وجاء في النعي: "ولد الأمين العام محسن السيد علي ابراهيم في العام 1935، وأسهم منذ شبابه، بكل ما يملك من فكر وطاقة قيادية في تشكيل حركة القوميين العرب، وأسهم إسهاماً كبيراً في المعارك القومية الكبرى، بدءاً من مصر ومعاركها إلى الجزائر وحرب تحريرها إلى اليمن وكنس الاحتلال البريطاني عن أرضها، وظل لبنان وفلسطين حاضريْن في تفاصيل نضاله المثابر حتى الرمق الأخير.
ومحسن ابراهيم لم يكن مجرد قائد عادي في مسيرات كبرى كالتي شهدتها المنطقة العربية في صراعها على امتداد أكثر من سبعين عاماً، كما لم يرَ في مساراتها ومنعرجاتها ما يستوجب التقديس والتنزيه عن النقد، هادفاً بذلك استخلاص الدروس التي تصَّوب الخلل الذي عانته وتعانيه في مجرى التجارب القاسية. فمن المساهمة في تأسيس حركة القوميين وتولي مع رفاق له قيادة فروعها وخصوصاً فرع لبنان، إلى الاندماج مع ثورة 23 تموز/ يوليه 1952 بقيادة الرئيس جمال عبد الناصر في مصر. ومن الدفاع عن حق المقاومة الفلسطينية في الانطلاق من كل أرض عربية نحو فلسطين المحتلة، إلى خوض غمار تجربة الحرب الأهلية في لبنان، والعمل تحت قيادة الزعيم الوطني الكبير كمال جنبلاط في تجربة تأسيس جبهة الأحزاب والشخصيات والقوى الوطنية التقدمية، تتويجاً بتشكيل الحركة الوطنية اللبنانية وصياغة برنامج التغيير السياسي، إلى تولي مهام الأمانة العامة التنفيذية للمجلس السياسي المركزي للحركة الوطنية، بعد اغتيال الزعيم الوطني كمال جنبلاط، تتويجاً بالإعلان مع أمين عام الحزب الشيوعي اللبناني الشهيد جورج حاوي البيان الأول لانطلاقة جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية رغم عمق الجراح التي خلفها الغزو والاجتياح الصهيوني وما تركته الحرب الأهلية من ندوب في جسد الوطن ...
لقد راهن محسن ابراهيم على معركة مع العدو الصهيوني حدد شعاراتها بالتحرير والتوحيد والديموقراطية، معوّلاً على مسارات تتجاوز انقسامات الحرب وخنادقها التقسيمية بعد أن رأى في استمرار النزاع الأهلي حرباً عبثية، لن تقدم سوى مزيد من تفكيك وحدة الأرض والشعب وتدمير مقوماته.
ومع توقيع اتفاق الطائف ومخارجه الطوائفية لأزمة الكيان اللبناني، عكف محسن ابراهيم على نقد تجربة الحركة الوطنية واليسار في الفكر والممارسة، وانكفأ نحو الداخل التنظيمي عاملاً بجهد فكري قل نظيره على تشريح تجربة اليسار اللبناني والعربي منذ الخمسينيات وحتى اليوم.
وفي الذكرى الأربعين لرحيل رفيقه الشهيد القائد جورج حاوي اعتبر ابراهيم أن الحركة الوطنية ارتكبت خطأين، أولهما أنها استسهلت الحرب الأهلية معبراً لتغيير بنية النظام الطائفي. وثانيهما أنها أباحت لبنان للمقاومة الفلسطينية، مما حمّله فوق طاقته وأدى إلى انشطاره شطرين متقاتلين، في ظل تخلي الدول العربية قاطبة عن التزام نصرة الشعب الفلسطيني ودعم ثورته.
لقد كانت القضية الفلسطينية وظلت، حاضرة في مشاغله وهمومه اليومية قبل أن تصل بواكير طلائعها إلى لبنان. وساهم في معارك حمايتها عبر الجبهة العربية المشاركة التي قادها المناضل كمال جنبلاط. وظل على صلة بالقائد التاريخي لمنظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات تعبيراً عن الوفاء والالتزام بهذه القضية حتى استشهاده. كما نسج علاقة نضال مع رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس أبو مازن. ومع إيمان محسن ابراهيم الذي لم يتزعزع في أحلك الظروف بهذه القضية وعدالة ما تمثله، أكد دوماً على رفض التعامل معها ورقة للمساومة والمزايدة، كما رفض تعامل العديد من فصائلها مع لبنان بالقطعة، وتفريخ التشكيلات داخل المخيمات وخارجها، ما يهدد الأمن الوطني و السلم الأهلي ووحدة المجتمعين اللبناني والفلسطيني.
وبناءً على تاريخه النضالي المديد دعماً للثورة الفلسطينية وحقوق شعبها، منحه الرئيس محمود عباس بتاريخ 23/ 2 / 2017 وسام الاستحقاق والتميز "الذهبي"، تقديراً لدوره القومي الأصيل في الدفاع عن أمته وقضاياها العادلة، ولا سيما قضية شعبنا الفلسطيني، وتثمينا عالياً لفكره اللامع والخلاق وشجاعته، وإسهاماته على امتداد عقود في قيادة نضال الحركة الوطنية اللبنانية، حيث ظل وفيا لمبادئه منحازاً لوطنه، وأمته العربية ولفلسطين قضيتها المركزية".
والمناضل محسن إبراهيم أحد أهم القادة السياسيين في لبنان على امتداد مراحل طويلة، وكان من القادة اليساريين في السبعينيات والثمانينيات، وانضم إلى حركة القوميين العرب قبل أن يؤسس منظمة الاشتراكيين اللبنانيين التي اندمجت سنة 1970 مع لبنان الاشتراكي ليشكلا منظمة العمل الشيوعي في لبنان، وشغل بعد ذلك منصب الأمين العام للمنظمة حتى رحيله، ثم أمينا عاما للحركة الوطنية اللبنانية.
كما نال وسام ثورة 14 أكتوبر من جمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية.
وختاماً، إذ تنعي منظمة العمل الشيوعي أمينها العام محسن ابراهيم للشعب اللبناني الصابر المناضل، وللثورة الفلسطينية وللشعوب العربية التي تعيش وسط أوضاع عصيبة تؤكد أن المسيرة التي قادها في المنعطفات الخطيرة ستتابعها من دون انقطاع، إيماناً أن اليسار اللبناني – العربي أحوج ما يكون لما استخلصه ابراهيم من تجربة نضال المنظمة والحركة الوطنية واليسار المديدة من أجل قيام لبنان ودول عربية علمانية ديموقراطية على أنقاض الديكتاتوريات وأنظمة الاستبداد والقمع والطائفية.