جنرال الخريف اللبناني.. سقوط العونيّة المدوّي مسيحيّاً
ظهّر لقاء بعبدا نهار الخميس 25 حزيران الجاري، العزلة المخيفة التي يتخبط فيها العهد العوني، بوصفه واجهة "شرعية" لسياسات حزب الله في لبنان. أُرِيد للقاء أن يكون رافعةً لعهد ميشال عون وصهره جبران باسيل، فأتت نتائجه معاكسة تماماً، كأنها إعلان لوفاته.
فبعد عزلته السنية والدرزية جاءت عزلة العهد المسيحية بأشد صورها فجاجة. فقوىً مسيحية كبرى ثلاث (قوات، كتائب، مردة) قاطعت اللقاء والعهد. وقد تكون هذه المقاطعة حلقة من سلسلة المناكفات والثارات اللبنانية. وهناك أيضاً معارضة بكركي طريقةَ أو شكل انعقاد اللقاء المتسرعة. وفي الأحوال جميعاً كشف اللقاء التصحّر والنزيف الشعبي اللذين أصيب بهما التيار العوني في الفئات الشعبية والوسطى المسيحية.
سقوط العونية الشبابي
فبعد نجاح عون في الوصول إلى قصر بعبدا، يعيش تياره نزيفاً شعبياً مسيحياً كبيراً جداً، بسبب خيبات الأمل التي أصابت كل من راهن على الحالة العونية المسيحية. وهذا قبل بداية انتفاضة 17 تشرين الأول 2019، وظهور مؤشرات الانهيار الاقتصادي والمالي العظيم.
ومن المؤشرات على تراجع شعبية عون هناك الانتخابات الطلابية في الجامعات، التي تعتبر من العلامات على تبدل قوة الأحزاب وشعبيتها بين جيل الشباب. وما من تيار يمكنه ادعاء الجماهيرية في غياب الأجيال الشابة.
والدليل على ذلك التآكلُ أو التراجع الشبابي الكبير اللذين مُنِيِ بهما مناصرو العونية أخيراً. وهذا على غرار ما أصاب الكتائب والوطنيين الأحرار والكتلة الوطنية في سنوات الحرب، وعندما ظهرت العونية في نهايتها، فملأت الفراغ الناجم عن ذلك التآكل والتراجع، واستقطبت فئات عمرية شابة وطلابية واسعة في المجتمع المسيحي. وهذا على الأرجح ما يصيب العونية اليوم من تفكك وانهيار شعبيتها. وخصوصاً في الأوساط الشبابية المسيحية.
ففي الجامعات التي أغلبية طلابها من المسيحيين، كان فوز اللوائح المدعومة من القوات اللبنانية كاسحاً في الانتخابات الأخيرة. وفي المقابل جاء مريعاً سقوط لوائح التيار العوني.
ذمّيّة عونية جديدة
وهناك مؤشر آخر على تهاوي العونية، يتحسسه كل من يعيش في البيئة المسيحية، أو يحتكّ بها. فقد صار ملموساً ضعف ظهور العونيين واعتزازهم بأنفسهم وبـ "نضاليتهم" السابقة. فهم صاروا يسلكون أحياناً سلوكاً باطنياً، وتدنت المواصفات الشخصية في حضورهم. وهذه حالهم منذ ما قبل انتفاضة 17 تشرين، على خلاف عاداتهم السابقة.
وما الباطنية وامّحاء المميزات الشخصية - وهي من العلامات على الذِّمية السياسية - إلا الدليل على إدراك العونيين أن خياراتهم ومواقفهم وأقوالهم باتت تثير الريبة، بل الاشمئزاز، في أوساط واسعة من البيئة المسيحية.
عودة إلى الانتخابات النيابية
وإذا عدنا قليلاً إلى الوراء، نلاحظ أن الانتخابات النيابية الثانية بعد الانسحاب السوري لم تكن نتائجها على ما يتوقع العونيون. فلوائح الشطب أظهرت أن 57 في المئة من الموارنة صوتوا ضد الخيار العوني. واللوائح العونية وحلفاؤها لم تحصل على أكتر من 43 في المئة من أصوات الموارنة. وبعكس الصورة الشائعة لم يمثل عون أكترية المسيحيين. والمرة الوحيدة التي أحرز فيها أكترية مسيحية، هي الانتخابات الأولى عقب تحرير لبنان من الاحتلال الأسدي. وكان للحلف الرباعي بين الأحزاب السنية والدرزية والشيعية، دوراً بارزاً في التحشيد المسيحي إلى جانب عون. وذلك ضد محاولة استفراد أقطاب الجماعات الثلاث بالسلطة، كما كانوا في أيام الأسد، من دون مرجعية عنجر.
لقد حصل عون آنذاك على أغلبية أصوت المسيحيين، كردة فعل على استئناف عزلهم و تهميشم. وهذا من دون أن ننسى غياب قوة منظمة منافسة لعون في البيئة المسيحية. فسمير جعجع كان خرج لتوه من السجن الذي مكث فيه طوال 11 سنة. والقوات كانت منهكة ومفككة تنظيميا، وتعاني من فقدان فاعليتها بعد 13 سنة من اضطهاد المخابرات السورية وتنكيلها.
مسؤولية جنبلاط التاريخية
وهذا يعني أن من مكّن عون من الأغلبية المسيحية، هما تحديدا جنبلاط وسعد الحريري اللذين كان يفترض أن يكونا شركاء المسيحيين في التحرير. فالمسيحيون شعروا جراء الحلف الرباعي المسلم، أنهم ساهموا في التحرير بقوة، ويدفعون وحدهم تقريبا ثمن مقاومة الاحتلال الأسدي طوال 15 سنة. وهم رأوا أن السنة والدروز انضموا إلى مسيرتهم الشاقة والطويلة في التحرير، في ربع الساعة الأخيرة. أي لحظة اغتيال رفيق الحريري. وعندما حلت ساعة التحرير، طُعنوا في الظهر بمحاولة تهميشهم مجدداً.
كأن وليد جنبلاط، لأسباب ثأرية واستئثارية تاريخية ضد المسيحيين، هو من قدم المسيحيين لميشال عون على طبق من ذهب، فيما كان سعد الحريري ضعيف التجربة السياسية بعد. وهكذا جرت تلك الانتخابات التي حصل فيها عون على الأغلبية المسيحية.
مسؤولية الحريري والقوات
في الانتخابات التالية خسر عون الأغلبية المسيحية. لكن صورته بصفته الزعيم مسيحي الأول ظلت راسخة في الأذهان وتكرست، بسبب الكتلتين النيابية والوزارية الضخمتين اللتين حصل عليما.
والجميع يعلم في لبنان أن حجم الكتلة النيابية في بلد متعدد الطوائف، تحدده التحالفات الانتخابية، أكتر من الحجم الشعبي الفعلي. فالأقوى شعبيا قد يحصل على عدد قليل من النواب، بسبب تحالفاته. وعون مثلا في الانتخابات الأخيرة تحالف مع محادل انتخابية ثلاث كبرى في لبنان: المستقبل، حزب الله، وحركة أمل. من دون أن ننسى حزب الطاشناق الذي وإلى عون، وهو يحشد وحده 12 ألف صوتاً أرمنياً في المتن، فور فتح صناديق الاقتراع. وبتحالفاته هذه نجح عون في تأمين أكبر كتلة نيابية مسيحية. فيما كان أبرز خصومه في الساحة المسيحية، أي القوات اللبنانية، شبه معزولين.
ولولا الأصوات السنية التي أهداها سعد إلى "صديقه" جبران باسيل في الانتخابات الأخيرة، لكان الوريث الشرعي للحالة العونية سقط في البترون. حتى أن التيار العوني كان أُصيب بوهن شعبي، لولا الصراع الانتخابي الغبي بين الكتائب والقوات اللبنانية في جبيل. ولكان سقط الصهر العوني التاني، شامل روكز في كسروان. وبالرغم من غباء خصومه لم يتأكد فوز روكز بالنيابة، إلا في منتصف الليل، وبفضل دعمه بمئات الأصوات من النائب نعمة فرام.
وبعكس الشائع، فإن عون مدين بكتلته النيابية لأصوات السنة والشيعة والأرمن، أكثر بكثير مما هو مدين لأصوات المسيحيين. وهذه مفارقة مضحكة لزعيم بنى أمجاده في السنوات الـ 15 الأخيرة على شعار "استعادة حقوق المسيحيين".
ورقة التوت المسيحية
وقد تكون الإيجابية الوحيدة للقاء بعبدا أن حزب الله فقد ورقة التوت العونية التي كان يتستر بها مسيحيًا. وهكذا يكون الحزب المسلح خسر خط دفاعه الأخير (إذا استثنينا نبيه بري)، وأصبح وجها لوجه مع الانتفاضات ضد السلطة العارية.
هل لقد سقطت الأقنعة في هذا الخريف اللبناني المديد الذي نعيشه اليوم؟