حركة اعتراضية.. ليس أكثر
"عادت الثورة إلى الشارع"، بهذه الجملة يُعلّق أحد الناشطين على المسيرات السيّارة التي انطلقت في اليومين الماضيين، في بيروت وأكثر من منطقة، تزامناً مع انعقاد جلسات مجلس النواب في قصر الأونيسكو. التظاهرات التي بدأت تخبو تدريجياً، حتى قبل أن يُشكل حسان دياب حكومته، عادت. أقلّه من وجهة نظر من شاركوا في "المهرجان" السيّار الاعتراضي، والذي انقسم على يومين، مفرد ومجوز، كما أمرت حكومة حسان دياب التي يقوم الناس ضدها!
من السيء إلى الأسوأ
خبو التظاهرات ساهمت في تعميقه الجائحة العالمية كورونا، وهذا أمر بديهي. لكن في اليومين الماضيين قررت مجموعات 17 تشرين الاعتراض، وكسر صمتها الممتد. من كان منهم يُنظم سابقاً التحركات لم يُشارك فعلياً في التحضير للمسيرات السيّارة، كما كان يحصل في السابق. في الأساس، ومع بدء أزمة "كوفيد – 19" تراجعت المجموعات إلى الخلف بطريقة غريبة، وسمحت للسلطة بالعودة إلى الواجهة على الصعد كافة، اجتماعياً وسياسياً وشعبياً. تراجعت المجموعات وسمحت للسلطة وأحزابها بأن يعودوا إلى ما قبل 17 تشرين. هل تغير وضع اللبنانيين بشكل عام عمّا قبل الانتفاضة؟ بالتأكيد لا. هو ينحو كُل يوم من سيء إلى أسوأ، لكن الذي تغير أن وقاحة السلطة عادت بأشكال متعددة، فيما الثابت الوحيد أن النفس الثوري بدأ يتلاشى تدريجياً على الأرض، هذا إن لم يكن قد اختفى تماماً.
المأزق والحائط المسدود
قرر اللبنانيون أن يرفعوا صوت "أبواق" سياراتهم فيما مجلس النواب يجتمع ليُقر قوانين. حين تجرأ زمن الانتفاضة أن يلوّح بها، أُقفلت أمامه كل مداخل تسلل نوّابه خلسة إلى ساحة النجمة. اليوم صار ضرب بوق السيارة بحد ذاته فعلاً اعتراضياً متميزاً. كيف؟ بالنسبة لمجموعات 17 تشرين هناك جواب واحد يتشاركون في توزيعه على السائلين والمستفسرين: "لا تنسوا نحن نعيش أزمة كبيرة، وبالتالي لا يُمكن أن نطلب من الناس أكثر وأن يُعرّضوا حياتهم للخطر. شكل الاعتراض في هذين اليومين حضاري ويراعي الواقع الذي نعيشه ويُولي حياة الناس بعض اهتمام غير موجود لدى السلطة".
يقولون إن أي شكل من أشكال الاعتراض جيد في هذه الظروف. قد يكون هذا الأمر صحيحاً. لكن الصحيح أكثر أن الفعل الثوري اليوم غير موجود. ما يحصل هو مجرد اعتراض. ناس يوصلون صوتهم بأنهم غير راضين عن أداء الحكومة. فارق شاسع بين خطاب اليوم وذلك الذي كان سائداً بعد 17 تشرين. ما الشعارات التي رفعوها الثلاثاء والأربعاء؟ يقولون إنهم يؤكدون على شعار "كلّن يعني كلّن". حسناً، ماذا بعد؟ ماذا يُريدون من الذين اجتمعوا في الأونيسكو؟ كيف سيسقطونهم؟ ليس إسقاطهم، كيف سيُعرّونهم من جديد؟ هل الأولوية لانتخابات مبكرة وبأي قانون؟ أم التركيز يجب أن ينصب على إسقاط الحكومة؟ لا أحد يملك الجواب الفعلي، والكل على الأرجح يعرف أنه في مأزق ولكن لا أحد لديه جرأة الاعتراف أنه أمام حائط مسدود وأن اختراقه بحاجة إلى عمل جماعي جبّار.
حزب الله وتعاميم مصرف لبنان
هذا العمل الجماعي المفقود، ليس بجديد. المجموعات لا تتفق على شعار موحد. هنا تدخل الحسابات السياسية لبعضها، فيما البعض الآخر يحاول جاهداً أن يجمع الباقين على خريطة طريق موحدة، لكن من دون جدوى. العجز عن خلق إطار موحد ولو تنسيقي لكل مجموعات الثورة خير دليل على هذا العقم الذي بدأ يستنزف الجميع، فيأخذ من حساب الانتفاضة ويضعها في "خرج" السلطة التي على جاري العادة، تقف لتقطف من فشل معارضيها، أو بالأحرى من عجزهم، الذي إذا استمرّ، فلن يكون إلا إعلان دفن لكل المنجزات المعنوية/الوطنية التي حققتها 17 تشرين. هذا كُله، وحزب الله، وهي الحامي الفعلي لهذا النظام، لم يبدأ جدياً معركة تثبيت سلطته عبر حسان دياب، في انتظار ما سيحصل في الإقليم كي يبنى على الشيء مقتضاه، ودخول الحزب هو بحد ذاته تحدٍ كبير، لن يكون بمقدور أي مجموعة معارضة مواجهته إلا إذا، اقتنع غالبية مؤثرة منهم أن الوحدة وحدها، سبيل المواجهة.
فيما كان الناس يجوبون بسياراتهم شوارع العاصمة، والكثير من المناطق اللبنانية، كان حاكم مصرف لبنان وبغطاء من كُل القوى السياسية، حتى تلك التي كانت تُريد إسقاطه أو بالأحرى توهم اللبنانيين بذلك، يُصدر مرسوماً يُمعن في سياسة تدفيع اللبنانيين ثمن سياسة حكامهم. فعلياً، الاعتراض لا يتوازى مع ما تقوم به السلطة. 17 تشرين فقدت نفسها الثوري. لو كان هناك نبض ثوري، لكنّا الآن نُشاهد فصلاً مُستحدثاً من استعادة ما هو مُلكنا، ليس أقل من احتلال كُل مرافق الدولة، مهما كان الثمن باهظاً. أقل من ذلك، سيبقى الاعتراض محطة أكثر من ترفيهية بقليل، لا يتسبب حتى بالقليل من القلق لسلطة مُجرمة، من رأس الهرم إلى أسفله.