وداعاً اسرائيل
مواضع كثيرة تحدث فيها امين عام حزب الله حسن نصرالله في كلمته الاخيرة، عن اسرائيل، من زاوية غير مطروقة في وضوحها وعلنيتها، لا سيما انه يتحدث في ذكرى النكبة الفلسطينية ١٩٤٨. فهذا تاريخ يستدعي، بحسب سوابق الحزب، التعبئة وشحذ الهمم وتجديد العداء لإسرائيل. الا ان ما ذهب اليه نصرالله خرج عن هذا السياق. في يوم النكبة قال الرجل "نحن أمام نكبة جديدة أكبر وأخطر هي نكبة المشروع التكفيري"، وأكد ان هذه النكبة الجديدة "أخطر وأكبر بكثير من النكبة التي نحتفل حزنا بذكراها ال67" موضحاً لجمهوره ان "النكبة الجديدة التي يصنعها التكفيريون في هذه الامة ستُضيع القضية الفلسطينية وستُضيع المقدسات، والأخطر من ذلك ستُضيع دولاً وشعوباً بكاملها". وفي يوم التعبئة المفترض لفلسطين دعا نصرالله جمهوره الى تحمل "المسؤولية في مواجهة هذا المشروع الأمريكي التكفيري الذي يريد أن يصنع نكبةً أعظم، تطيح بالدول وبالشعوب وبالجيوش وبالمقدسات أيضاً". غابت فلسطين في يوم نكبتها. أحالها نصرالله على التقاعد لصالح "النكبة الجديدة".
من يشك في ان نصرالله يحضر جمهوره للانتقال من ثقافة "ما بعد بعد حيفا" الى مرحلة "ما بعد بعد اسرائيل"، كقضية مركزية في خطابه وعنوان أساسي لعقيدته، سيجد في الكلمة الاخيرة المزيد من الأدلة.
تأسف نصرالله في كلمته اسفاً شديداً لاضطراره الى اجراء مقارنة مع اسرائيل. وكان من الممكن عذره لو ان المقارنة جاءت في سياق مثل واحد، للاستدلال بطريقة المبالغة. لكن مقارنته جاءت بمثابة صك براءة لإسرائيل من جرائم نسبها الى المملكة العربية السعودية في اليمن.
فإسرائيل لم تقصف "لا أضرحة ولا مقامات" بينما فعلها السعوديون. وإسرائيل، نادراً ما قصفت مستشفيات، لكن ما قصفته السعودية من مستشفيات لا عد له. ليست المقارنة هنا مقارنة وحسب، وليست مقاربة منطقية للاستدلال والمحاججة، بل تحمل، كما المقارنة السابقة بين نكبتين، جديدة وقديمة، تبرئة ضمنية لإسرائيل، او بالحد الأدنى تجاوزاً لجرائمها نحو جرائم اكبر، تقزم الجريمة الإسرائيلية.
المفارقة ان نصرالله لا يسقط فقط اسرائيل من خانة صدارة الأعداء والمجرمين، بحسب ما يفترض ان تمليه عقيدته، بل هو يسقط ركناً مهماً من أركان دعايته السياسية. فكيف تستقيم تبرئة اسرائيل من هدم الأضرحة والمقامات، وهي بحسب نصرالله، القوة الخفية الاولى التي تقف خلف داعش، هادمة الأضرحة والمقامات. اليست دعاية نصرالله تقوم بمجملها على افتراض ان اسرائيل تقف خلف كل شر يصيب عالمنا؟
بكل الأحوال ما عادت مهمة هذه التناقضات في خطابات نصرالله. فنحن ازاء نصه، لسنا في مبارزة في علم المنطق، بل امام نص يؤشر الى تحولات استراتيجية في وجهة الصراع وكيفية توظيف الأيديولوجيا. وما انطوت عليه الكلمة الاخيرة، هو استراتيجية معدة بعناية، لتعديل الوعي الصراعي لدى جمهور حزب الله وتحضيره للمهمات الجديدة التي تمليها التغييرات الناتجة عن اتفاق نووي مرجح بين ايران والولايات المتحدة. يعلم نصرالله قبل غيره ان مثل هذا الاتفاق لا ينفصل عن ضمان أمن اسرائيل، وبموافقة ايران، مع ما يعنيه ذلك من إنهاء وظيفة حزب الله ببعدها الصراعي المسلح مع اسرائيل. يستلزم هذا التحول عنواناً جديدا للتعبئة، هو النكبة التكفيرية الأكبر من نكبة فلسطين، وعدواً جديداً هو السعودية.
وعليه سيمضي نصرالله في هذا الخطاب في ما يأتي من إطلالات، محيلاً القضية الفلسطينية على التقاعد، ومزيناً لجمهوره طريقاً جديداً الى الجنة... وللبقية طريقاً جديداً الى الجحيم.