أين بشار الأسد مما يحدث في لبنان؟
في الصفحة الرئيسية لموقع وكالة أنباء الأسد "سانا"، وفي الشريط المخصص للأخبار العاجلة، نقرأ أن وزارة النقل أصدرت نموذجاً جديداً للوحات المركبات. أعلى منه، في الشريط الإخباري، ما زال يتكرر خبر إصدار الأسد عفواً عن بعض الجرائم والجنح والمخالفات المرتكبة قبل الثاني والعشرين من هذا الشهر، وهو تاريخ إصدار العفو. إلى جواره، في الشريط الإخباري، يتكرر خبر مشاركة سوريا في فعاليات "المؤتمر الدولي للتأريخ الشفوي" في سلطنة عمان، وخبر المشاركة في أعمال "قمة المستقبل" في مقر الأمم المتحدة في نيويورك.
تاريخ 22/9 لا خصوصية له، ولا يصادف أية مناسبة ليصدر فيه مرسوم للعفو، مع التنويه بأن مراسيم العفو المماثلة اقترنت دائماً بمناسبة ما. وأن يظهر بشار الأسد في الأخبار من خلال إصداره مرسوم العفو، وفي هذا التوقيت، فإن ظهوره يذكّر بوجوده على رأس عمله، لكن من دون اتخاذ المواقف السياسية والسيادية التي يرتّبها عليه إشغاله منصب الرئاسة. بل إن تذكيره بنفسه على هذا النحو، وفي هذا التوقيت الساخن، يبدو كأنه متعمَّد، ويُراد به إبراز تجاهله ما يحدث، ونأيه التام عنه.
منذ ما يقارب السنة لم يصدر عن الأسد ما يذكّر بخطاب الممانعة المعهود، فهو نأى بنفسه عما يحدث في غزة، واكتفت آلته الإعلامية بالحد الأدنى من الموروث القديم. وقد فُهِم ذلك على نطاق واسع كرسالة موجَّهة إلى تل أبيب، تتعلق خصوصاً بنيل رضاها عن بقائه في كرسي الرئاسة، أو تجديد ذلك الرضا الذي أفصح عنه فيما سبق مسؤولون إسرائيليون تحت شعار التخوّف من البديل.
ورغم أن فلسطين هي القضية، بلام التعريف، ضمن خطاب الأسد الموروث فإن للبنان مكانة فعلية تفوقها، يختصرها الخطاب الإعلامي الذي لطالما تحدّث عن "شعب واحد في بلدين". أي أن الهجوم الإسرائيلي الحالي، والذي بدأ يوم الثلاثاء الفائت بتفجير أجهزة لاسلكية، يُفترض أن يستدعي موقفاً على أعلى مستوى في السلطة ومن الأسد تحديداً. الحديث بالطبع عن موقف وتضامن لفظيين، إذ لا يُتوقع بموجب الضعف الذي وصل إليه الأسد أن يترجم ذلك إلى أفعال؛ هذا على افتراض أنه امتلك من قبل شيئاً من القوة ونية استخدامها، باستثناء استخدامها ضد السوريين دائماً وضد اللبنانيين في زمن الوصاية.
بهذا المعنى كشفت الحرب الإسرائيلية على غزة، ثم امتدادها إلى لبنان، عن تخلّي الأسد عن العدّة الإعلامية الأساسية لسلطته، وهو ما لم يحدث من قبل. جدير بالذكر أن إعلامه دأب منذ انطلاق الثورة على تصوير الثائرين والمعارضين بوصفهم عملاء لإسرائيل، وروّج لإبادتهم على أنها تصدٍّ لمؤامرة إسرائيلية مزعومة. ولطالما صوّر إعلامه الغارات الإسرائيلية على مواقع لإيران وحزب الله في سوريا على أنها ضمن المؤامرة إياها، وهو يتصدى لها تالياً بإبادة عملائها. أي أن إسرائيل بقيت خلال السنوات الأخيرة كلها رمزاً للعدو الأكبر، ولو أتى ذلك استثماراً لكونها هكذا في الوجدان السوري عموماً.
يمكن، على سبيل المثال، استذكار أن الحكومة اللبنانية تقدّمت بالعديد من الشكاوى إلى مجلس الأمن الدولي ضد إسرائيل، في السنوات الأخيرة التي لم تشهد تحركاً من الأسد في الاتجاه نفسه. سلوك الأخير لا يتعلق طبعاً بكون الشكوى إلى مجلس الأمن سيكون مصيرها الإهمال، وتل أبيب نفسها تعرف مصير الشكاوى إلا أنها رغم ذلك تقدّمت، قبل خمس سنوات، بشكوى إلى مجلس الأمن ضد الأنشطة الإيرانية في سوريا، ورغم أنها لا تنتظر ولو إدانة من المجلس لتستند عليها في شنّ غاراتها على المواقع الإيرانية.
ولعل فداحة سلوك الأسد ظهرت فاقعة منذ أسبوعين، عندما قُصفت مواقع إيرانية في القرب من مصياف. حجم الحدث هذه المرة لا يُقارن بغارات إسرائيلية سابقة على مركز للبحوث، أو على معسكر تستخدمه الميليشيات الإيرانية قرب مصياف. ومهما كان الموقع المستهدف فهو سوري ويقع رسمياً تحت سيطرة الأسد، أو تحت سيادته بتعبير قانوني، وهذا لا يجعله فقط صاحب حقّ لرفع صوته ضد الانتهاك الذي تعرّض له، بل إن وجوده على كرسي الرئاسة يجعل من واجبه الدفاع عن سيادة البلد، ولو بلسانه.
الحرب التي تتوالى فصولها لم تعد حتى كما كانت عندما كان نطاقها محصوراً في غزة، فعلى سبيل المثال تهدد فصائل عراقية بالمشاركة فيها عبر الأراضي السورية. وقد قصفت فعلاً ميليشيا تابعة لإيران القاعدة الأميركية في الشدادي، في ريف الحسكة ليل الأحد، وقبل يوم من ذلك أعلن الجيش الإسرائيلي عن اعتراضه مسيَّرة رصدها وهي تنطلق من العراق، وتعبر فوق سوريا في اتجاه غور الأردن. أي أن توسع نطاق الحرب واستمرارها سيفرضان باطراد استخدام الأراضي السورية لمساندة الحزب في لبنان، ومن مستحقات وجود الأسد في كرسي الرئاسة أن يخرج مبكراً ليعلن موقفاً واضحاً مما حدث، ومن السيناريو الذي لم يعد مستبعداً حدوثه.
ولئن كان مفهوماً أن طهران تحاشت توريط الأسد فيما صار يسمّيه الحزب جبهة الإسناد، لأنها أرادت إبقاءه بعيداً عن مرمى الانتقام الإسرائيلي، فإن شدة الحرص الإيراني تكشف عن عدم رسوخ الأسد في كرسيه رغم كل ما بُذِل لإبقائه فيه. وبموجب هذا سيبقى خيار توريطه غير مُستحبّ لحلفائه، ولإسرائيل أيضاً، إلا أن ذلك يستوجب أيضاً الإبقاء على قواعد اشتباك يحترمها الطرفان، وهو ما تعلن تل أبيب انقضاء زمنه.
حتى إذا لم تتطور الحرب لتكون مفتوحة، غير مضبوطة بحدّ، فاحتمال وقوع جولات عنيفة من اختبار القوة وارد جداً، وإذا انطلقنا من السؤال عن موقع الأسد مما يحدث في لبنان فإن التطورات تعيد طرح السؤال، إنما عن موقعه مما يحدث في سوريا ربطاً بالحرب في لبنان. والسؤال هنا يتعدّى ماهية الموقف، لأنه يتحرّى إمكانية اتخاذ أي موقف على الإطلاق، وهو ما لا يبدو متاحاً له بخلاف التحليلات "المتفائلة" عن قدرته على اللعب على تناقضات القوى الدولية والإقليمية، اللعب الذي يتطلب رسوخاً وتوازناً لا تُرى بوادر على وجودهما.
أبعد من شخص الأسد، يدلّ وجوده في المنصب، مع انكفائه منذ سنة عن حدث إقليمي بهذه الحدة، على ما وصلت إليه سوريا كبلد ودولة. مرة أخرى، هذا لا يتعلق بماهية الموقف، بل بالقدرة على اتخاذ موقف؛ أيّاً يكن بدل الانعدام المطلق للفعالية. فيما يطابق هذا الواقع، يمكن القول إن الأسد كان يستخدم خطاب الممانعة لإكساب سلطته شيئاً من المعنى والشرعية، ولو ظاهرياً، أما الركام الذي تبقى فلم يعد يحتاج أي معنى على الإطلاق.