حماس البعض ضد "حماس"

سلام الكواكبي
الثلاثاء   2024/08/06
من مَسيرات مناطق المعارضة في الذكرى الـ13 لانطلاق الثورة السورية (غيتي)
خاض بعض السوريين والسوريات أخيرًا، نزاعات افتراضية عبر وسائل التواصل، وصلت إلى مراحل عنفية لفظيًا، ضمّت في ما ضمته الكثير من التخوين، مضافًا إليه بعض التكفير. وأخيرًا وليس آخرًا، لم يخل الأمر من استغلال الفرصة الذهبية لتصفية حسابات سابقة متراكمة عبقت بها صدور البعض، بحق البعض الآخر منذ سنوات طوال، لأسباب ذاتية، وليست موضوعية البتة، أهملت تماماً وعمداً الهمّ العام المشترك ومصير وطنٍ غادروه طوعاً أو أجبروا على مغادرته غصباً، وقد تفتت وهو في مرحلة الزوال.

ولو أُتيح لبعض هذا البعض أن يُواجه فيزيائياً البعض الآخر، فيبدو، من درجة عنف تبادلاتهم الحرّة، بأنهم لن يترددوا في المصارعة بكل ما أوتوا به من جلمود تراكماتٍ حطّها القهر التاريخي من علٍ. ولقد دارت الخلافات البنّاءة من جهة، وتلك الهدّامة من جهة أخرى، حول مسألة الموقف من حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، خصوصًا بعد تعرّض قائدها السياسي، إسماعيل هنيّة، للاغتيال من قبل الإسرائيليين وعملائهم في طهران الأسبوع الماضي.

في هذه العجالة، لن أخوض في موقف "حماس" من الثورة السورية في بداياتها، والذي كان داعمًا، ثم تغيّره تباعًا نحو الانفكاك ثم التماس العفو من قادة دمشق من دون الحصول عليه كاملاً، وذلك على الرغم من التدخل الإيراني أو ربما بسببه. وأسبابهم في هذا سياسية بحتة، يُناقش بها أصحاب القرار أو من سيتبقى منهم حياً لاحقاً في ظل شراسة آلة القتل الإسرائيلية المستمرة ضد الشعب والقادة من الفصائل والتوجهات كافة. ونظرياً، يجب الاعتراف بامتلاك كل طرف سياسي الحرية الكاملة في اختيار حلفائه الآنيين أو الدائمين، حسب معاييره هو (وهم الإيرانيون وأدواتهم في المنطقة في هذه الحالة)... آخذين في الاعتبار حالة الحصار المفروضة عليه ممن هم أولى بالقضية نظرياً، وقد باعوها في سوق النخاسة منذ عقود عملياً (وهم جلّ العرب في هذه الحالة).

ألم يختَر بعض رموز الثورة السورية التحالف مع "أعداء تاريخيين" وجغرافيين؟ ألم يُراهن بعض سُذّجهم (وهنا أُكثِر من حُسن النيّة)، وهم قلّة قليلة ولله الحمد، على عدو إقليمي يحتل جزءاً من أرضهم الوطنية جنوباً؟ ألم يضع بعضهم الآخر كل بَيضه في سلّة الجار الشمالي الذي يسعى اليوم للتصالح مع دمشق وربما سيسعى غدًا للاعتذار من رأس السلطة فيها؟ يعود القرار في التحالف أو عدمه إذًا إلى صاحب الملف أو الى من يخوض فيه من دون محاكمة النيّات، باستثناء أكيد يتمثّل في مشاركة له في الاعتداء على أصحاب حقوق مشروعة يناضلون من أجلها، كما يعتبر نفسه صاحب حق مشروع يناضل من أجله. والمثال الصارخ هو "حزب الله" الذي، بعدما أحبه السوريون كمقاوم، صاروا لاحقاً، في جزء كبير منهم، ضحاياه المباشرين.

إن عجز بعض السوريين والسوريات عن مواجهة الإسلام السياسي الذي في جنباتهم، وتحالفهم معه أحياناً، ودفاعهم عن متطرفين قتلة في أسوأ الأحيان ـ نتذكر تماماً احتفالات بعض "السذّج" بانتصار جبهة النصرة الإرهابية ـ تمت ترجمته بإدانة الإسلام السياسي أينما حلّ وأينما نشط لدى الآخرين. فهم سيفرحون لانقلاب بينوشيه العرب في مصر، على الحكومة الشرعية، لمجرد انتماء رئيسها الى حزب إسلامي. وهم سيُدافعون عن إقصاء قادة حركة "النهضة" التونسية ـ وحتى اعتقالهم ـ إبرازاً لعلمانيتهم الانتقائية. وفي المقابل، فإن توجّه "حماس" للخروج من عنق التعريف الديني إلى حيّز حركة التحرّر الوطنية والمشاركة في إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية، بناءً على قواعد بنيان وطني لا ديني، فهذا لن يجد صداه لدى هؤلاء لأن حُكمهم مُبرم.

إن معاناة السوريين المستمرة منذ عقود، والمترسّخة دماً وتدميراً منذ 13 سنة، يمكن لها أن تمنحنا مفاتيح أولية لمحاولة استيعاب العنف اللفظي الذي يدور في رحى حواراتهم أو جدالاتهم أو صراعاتهم الكلامية. معاناة شملت في ما شملته انتهاكاً طائفياً منهجياً، نفذه "حزب الله" المتحالف مع نظام دمشق وبدعمٍ إيراني مباشر. هؤلاء اليوم هم حلفاء لحركة "حماس". وبالتالي، فالموقف منها ومن قضيتها ومن ثناياها المعقّدة، سيستند بالنسبة إلى البعض، على حدود هذه العلاقة. وهذا منطقي في المطلق للوهلة الأولى.

لكن، فلنرجع الى دروس التاريخ التي أظهرت وبكل وضوح نشوء تحالفات في شكلها الخارجي بعيدة من المنطق، غير أن نتائجها هي الأقرب إليه. فجمهوريو إسبانيا الديمقراطيون تحالفوا مع نظام جوزيف ستالين الدموي في مواجهة الانقلابي فرانكو. كما صدّقت كل حركات التحرر الوطني في آسيا وفي إفريقيا أن حليفها الوحيد للوصول الى حريتها الجماعية والفردية، يأتي من دول المعسكر الاشتراكي التي باعت واشترت بهم وبقضاياهم حسبما أملت عليها مصلحتها.

في المحصّلة، من يسعى إلى التحرّر من الطغاة، عليه أن يكون منسجماً مع سعيه الفردي أو الجماعي ليقيس به سعي آخرين إلى تحررهم من المحتلين. ومن المحبّذ تأجيل الإسقاطات التي تستند إلى مقاربات تشفي الغليل الشخصي دون العام. والمشهد الإقليمي/ كما الدولي، شديد التعقيد سياسياً وعسكرياً وحقوقياً. والتاريخ لا يرحم أصحاب الرؤوس الحامية.