في دلالة مؤشرات التعقيد المتزايد لوضع إسرائيل
حمل الأسبوع الفائت مزيدًا من المؤشرات إلى ما يصفه معظم المحللين في إسرائيل بازدياد تعقيد وضع إسرائيل، سواء على المستوى العسكري أو في الساحة الدولية.
ومن بين المؤشرات المتعلقة بالساحة الدولية لا بد من التوقف عند اثنين منها:
الأول، القرار الذي أصدرته محكمة العدل الدولية في لاهاي، يوم 24 أيار/ مايو الحالي، والذي نصّ على أنه يجب على إسرائيل وقف هجومها العسكري على الفور وأيّ عمل آخر في محافظة رفح قد يُلحق بالجماعة الفلسطينية في قطاع غزة ظروفًا يمكن أن تؤدي إلى تدميرها المادي، كليًا أو جزئيًا. ويبدو أن الصيغة المستخدمة في القرار تسمح، حتى لإسرائيل، بتفسيرها بأنها تسمح لها بالقيام بالعملية العسكرية في رفح. كما أنه بحسب تفسير 4 قضاة في المحكمة، هذا الأمر لم يكن مباشرًا وشاملًا بوقف العملية العسكرية الإسرائيلية في رفح، بل كان محدودًا يأمر إسرائيل بعدم انتهاك اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية في تلك العملية العسكرية.
المؤشر الثاني، إعلان المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية كريم خان، يوم 20 أيار/ مايو الحالي، أنه طلب إصدار مذكرات توقيف بحق زعيم حركة حماس في غزة يحيى السنوار، وقائد الجناح العسكري لهذه الحركة محمد الضيف، ورئيس المكتب السياسي للحركة إسماعيل هنية، وضد رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، ووزير الدفاع يوآف غالانت.
ووفقًا لبعض التحليلات إذا ما انضاف هذان المؤشران إلى مؤشرات أخرى مستجدة يتأكد بما لا يدع مجالًا لأي شك أن إسرائيل موجودة في لحظة نكسة نكراء وتدهور في حضيض غير مسبوق. ويجري التنويه على وجه الخصوص بمؤشرات اعتراف عدد من الدول الغربية بالدولة الفلسطينية، من جهة، ومن جهة أخرى اتساع المقاطعة الأكاديمية لإسرائيل في العالم واعتراف عدد من الباحثين الإسرائيليين بأنهم باتوا يواجهون صعوبات كبيرة في نشر مقالاتهم في المجلات المُحكمة لأن المحكمين غير مستعدين لقراءة هذه الأبحاث، كما أوردت صحيفة "يديعوت أحرونوت" (24/5/2024). داخل هذا السياق الأخير ينبغي أن نشير إلى أن ردات الفعل الإسرائيلية على موجة الاحتجاجات ضد الحرب العدوانية الإسرائيلية المستمرة على قطاع غزة منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، والتي تشهدها جامعات عديدة في العالم ولا سيما في الولايات المتحدة، تجمع على أن هذه الاحتجاجات لن تهدأ عندما تنتهي الحرب، ويمكن أن تتخطى حدود الجامعات الأميركية وتتحوّل إلى خطاب عام واسع في الولايات المتحدة، كما أنها امتدت إلى جامعات أوروبية وإلى سائر دول الغرب. وقبل أي شيء من شأنها أن تصبح إحدى السمات الأساسية في بلورة تطلعات الطلبة الجامعيين الحاليين الذين يشكلون، بكيفية ما، الجيل المقبل للزعامات في الولايات المتحدة وفي الدول الغربية.
ولدى متابعة كيف تمت قراءة محصلة كل هذه المؤشرات في إسرائيل، وآخر مستجدات الحرب على قطاع غزة من وجهة النظر العسكرية، يتعيّن أن نسجّل ما يلي:
أولًا، يتفق أغلب المحللين على أن قرار محكمة العدل الدوليّة في لاهاي لن يغيّر مسار الحرب في قطاع غزة فورًا، ولكنه في الوقت نفسه ينضم إلى سلسلة الضغوط الدولية على إسرائيل من أجل إنهاء القتال. ومع ذلك في هذه المرحلة لا يوجد أيّ تحرُّك أحادي الجانب من جانب المؤسسات الدولية في سبيل وقف الحرب، فقط هناك آمال تراود البعض بأن يُصدر مجلس الأمن الدولي عقوبات ضد إسرائيل في فترة لاحقة.
ثانيًا، يدلّ طلب المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية إصدار مذكرات اعتقال بحق نتنياهو وغالانت على عدم الثقة بادّعاءات إسرائيل أنها تحترم قوانين الحرب، كما يُلحق ضررًا بالغًا بمكانتها الدولية. ووفقًا لما يؤكده "معهد أبحاث الأمن القومي" في جامعة تل أبيب (21/5/2024) يبقى الأخطر، بصورة خاصة، هو "المساواة بين أفعال إسرائيل وأفعال حماس". ويشير المعهد إلى أن مذكرات الاعتقال المطلوبة ركزت في هذه المرحلة على "السياسة الإنسانية لإسرائيل في القطاع"، ولهذا السبب فقد وُجّهت فقط ضد المستوى السياسي. مع ذلك، يشير المدعي العام إلى أنه سيواصل التحقيق في ادّعاءات تتعلق بالقصف الواسع النطاق لقطاع غزة، مما قد يطاول أيضًا المستوى العسكري. وينوه المعهد بأنه يجب الانتباه إلى التلميح الذي أرسله خان إلى إسرائيل، والمتعلق بما يعرف بـ"مبدأ التتام". وبموجب هذا المبدأ، يحق للمحكمة الجنائية الدولية إجراء التحقيقات والقيام بإجراءات تتعلق بارتكاب جرائم، فقط حين لا تقوم الدولة المعنية بذلك بنفسها. ويشدّد خان على أن مكتبه سيواصل فحص الالتزام بـ"مبدأ التتام" فيما يتعلق بالجرائم والتحقيقات الأُخرى، فقط إذا كانت هناك تحقيقات جذرية وإجراءات قانونية مهنية تتعلق بالأفعال والسياسات التي يستند إليها الطلب. ويكمن في هذه النقطة تحديدًا تلميح إلى عدم ثقة بالجهاز القضائي في إسرائيل.
ثالثًا، سواء رفضت المحكمة الجنائية الدولية طلب إصدار مذكرات الاعتقال، أو قبلته، يؤكد عدد من المحللين العسكريين في إسرائيل وفي مقدمهم رون بن يشاي، من "يديعوت أحرونوت"، أن على الجيش الإسرائيلي أن يعتبر الطلب بحد ذاته كرة ثلج متدحرجة. وبرأيه "إذا قرر القضاة الثلاثة في هذه المحكمة الدوليّة قبول طلب المدعي العام، فهذا يمكن أن تكون له إسقاطات على شكل مذكرات اعتقال ضد المسؤولين في الجيش، وبعد ذلك ضد الضباط والمقاتلين في الميدان الذين سيُتّهمون بارتكاب جرائم حرب" (20/5/2024).
رابعًا، مع إعلان كل من النرويج وأيرلندا وإسبانيا وسلوفينيا اعترافهم بالدولة الفلسطينية، بدأ هذا المسار البطيء "يتحوّل إلى تسونامي"، كما تؤكد ورقة تقدير موقف صادرة عن "معهد متفيم (مسارات) للسياسة الخارجية الإقليمية" ("معاريف"، 23/5/2024). ويرى المعهد كذلك أن رفض نتنياهو إعلان استعداده، مستقبلًا، لـ"قبول قيام دولة فلسطينية مع ضمانات أمنية دولية" يُضعف إسرائيل، ويؤدي إلى عزلتها، ويُلحق الضرر بها، وستكون العواقب مدمرة على إسرائيل.
خامسًا، يشير تطوّر آخر الأحداث بصورة واضحة إلى تدهور مكانة نتنياهو في العالم، فهذا الرجل الذي لطالما "ادّعى أنه رجل دولة عظيم، بات غير قادرٍ على تحقيق الأهداف الاستراتيجية التي حدّدها للحرب، كما أنه يورّط إسرائيل في مشاكل ستلاحق الدولة ومواطنيها أعوامًا عديدة"، مثلما جزم المحلل العسكري لصحيفة "هآرتس" عاموس هرئيل (22/5/2024).
وأعاد المحلل السياسي نداف إيال ("يديعوت أحرونوت"، 24/5/2024) إلى الأذهان أنه في عام 2019 صدر كتاب بعنوان "كيف حوّل نتنياهو إسرائيل إلى إمبراطورية" ونأى بها عن العزلة الدولية على الرغم من الصراع مع الفلسطينيين والاحتلال في أراضي 1967 والاعتراف المتزايد بالدولة الفلسطينية. وأشير في الكتاب إلى أن الهدف السياسي الذي وضعه نتنياهو لدى عودته إلى رئاسة الحكومة في عام 2009، تجسّد في تحويل إسرائيل إلى قوة عظمى ومؤثرة إقليميًا. و"هو هدف لم يكن ممكنًا تحقيقه إلا باستغلال المقومات النوعية ومكامن القوة في المجتمع الإسرائيلي، ثم تحويلها إلى امتيازات تدفع نحو تحقيق الهدف السياسي. وقامت استراتيجية نتنياهو هذه على ركيزتين: الاقتصاد القوي والمستقر، والقوة العسكرية والأمنية". فأين إسرائيل الآن من هذه الرؤية؟
سادسًا، بالنسبة إلى نتنياهو نفسه تؤكد آخر التطورات أنه ما زال متمسكًا باستمرار الحرب. وارتأى اللواء يسرائيل زيف، القائد السابق لـ"فرقة غزة" ولشعبة العمليات (25/5/2024)، أن يشدّد على أنه إذا ما اختار نتنياهو، في ضوء كل الظروف المُشار إليها أعلاه، أن يتمسك بخيار استمرار الحرب الطويلة التي قد تشمل احتلال أجزاء من قطاع غزة ما يعني كذلك مواصلة حرب الاستنزاف في مقابل حزب الله في الشمال، وتعاظم قوة إيران، وانهيار مكانة إسرائيل في العالم، وتفاقم أزمتها الاقتصادية، فهذا يجب أن يعني لكل إسرائيلي أن هذه الحكومة باتت تشكل خطرًا على إسرائيل وسوف تتسبّب بتقويض الدولة. وأضاف قائلًا: "إننا في اللحظة الأكثر مصيرية التي يتعيّن فيها على رئيس هيئة الأركان العامة ووزير الدفاع أن يضعا أمام رئيس الحكومة شرطًا فوريًا غير قابل للجدل وهو اتخاذ قرار سياسي متعلق باليوم التالي للحرب حالًا. وأي إرجاء لمثل هذا الأمر يعني إتاحة المجال أمام نتنياهو لدهورة إسرائيل نحو الهاوية. ولذا فإن المسؤولية عن مثل هذا الاحتمال تنتقل إليهما أيضًا".
سابعًا، على صعيد آخر التطورات العسكرية يجمع أغلب محللي الشؤون الأمنية والقادة العسكريين السابقين على أن استمرار الحرب يزيدها تعقيدًا من ناحية، ومن ناحية أخرى يتسبب بتراكم مزيد ومزيد من الجنود القتلى، ومزيد من الجنود المعاقين، جسديًا ونفسيًا، وأن الجيش بات مضطرًا إلى أن يبحث، بكل طاقته، عن مقاتلات ومقاتلين من أجل سدّ الفراغ الذي يتركه هؤلاء في صفوف الجيش، ولن يتمكن أحد بعد الآن من تبرير رفض الشبان اليهود الحريديم التجنّد في الجيش.
ومثلما كتب المحلل العسكري لصحيفة "مكور ريشون" اليمينية عمير ربابورت (23/5/2024): ثمة موضوع مسكوت عنه أو بالأصح لا يكثرون الحديث بشأنه لكنه يؤرق قيادة الجيش الإسرائيلي جدًا، وهو التآكل الجسدي والنفساني للجنود الإسرائيليين وبالأساس في الجيش النظامي، إلى جانب النقص الشديد في القادة الميدانيين. وتكمن خلفية هذا التآكل في استمرار الحرب طبعًا. فلقد تم بناء الجيش الإسرائيلي على مدار عشرات الأعوام وفقًا لمفهوم يحدّد بأنه يجب التطلّع إلى أن تكون أي حرب قصيرة قدر الإمكان، وأن تدور في أراضي العدو. ولكن من ناحية عملية فإن الحرب على غزة تدور في أراضي إسرائيل أيضًا، ولا نلمح نهاية لها حتى بعد مرور نحو ثمانية أشهر على بدايتها.
[نشر أيضًا في موقع المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية- مدار]