ميناء اللاذقية "فرنسي" لا "إيراني"

إياد الجعفري
الأحد   2024/11/03
لميناء اللاذقية قيمة استراتيجية في حسابات إيران بعيدة الأمد (الأرشيف)
مجدداً، أحال نظام الأسد محطة حاويات ميناء اللاذقية إلى شركة فرنسية، لا إيرانية. وأحبط، لخمس سنوات أخرى، حلماً أثيراً لدى طهران بأن يكون هذا الميناء درّة تاج جزئها المتخيّل من "طريق الحرير" الصيني. هكذا يمكن توصيف خبر تمديد عقد إدارة المحطة، بين شركة الشحن الفرنسية "CMA CGM" وحكومة النظام السوري، قبل أيام.

وتعود بداية هذه القصّة إلى العام 2009، حينما تم تأسيس شركة "محطة حاويات اللاذقية"، بشراكة بين مجموعة CMA CGM، ثالث أكبر شركة في العالم بمجال النقل البحري والخدمات اللوجستية، التي كان يقودها رجل الأعمال الفرنسي- اللبناني، من أصول سوريّة، الراحل جاك سعادة، وشركة "سورية القابضة" التي كانت تمثّل استثمارات نخبة من رجال الأعمال السوريين المقيمين والمغتربين. وتولت الشركة الناشئة إدارة وتشغيل محطة الحاويات، وهي الجزء الأكثر أهمية في ميناء اللاذقية. وبدأ عمل الشركة في مطلع تشرين الأول/أكتوبر من العام 2009. وبعد عشر سنوات، انتهى عقد إدارة المحطة. وتعرّض النظام لضغوط إيرانية للحصول على الميناء.

ولميناء اللاذقية قيمة استراتيجية في حسابات إيران بعيدة الأمد. إذ أنه يشكّل خاتمة طريق تجاري مُتخيّل راهنت إيران لنحو عقدين على تأسيسه، لينطلق من أراضيها عبر العراق، وعبر البادية السورية، وصولاً إلى السواحل السورية. لتكون إيران بذلك جزءاً رئيساً من مبادرة "الحزام والطريق" الصينية. ولتمتلك إطلالة تجارية على المتوسط.

لكن حلم إيران هذا تعرّض لعقبات نوعية، أبرزها، عدم استقرار نفوذها الميداني في البادية السورية، جراء الضربات الأميركية والإسرائيلية المتكررة لما يُعتقد أنه شاحنات سلاح إيرانية، إلى جانب نشاط خلايا تنظيم "الدولة الإسلامية" في هذه البقعة الشاسعة من الجغرافيا السورية. ومن ثم جاء الفيتو الإسرائيلي على تمتع إيران بامتياز إدارة ميناء اللاذقية، والذي بدأ بتهديدات علنية منذ العام 2019. وعلى وَقع تلك التهديدات جرت مساومة بين النظام السوري وإيران. وتمكّن الأول من إرجاء رغبة طهران باقتناص محطة حاويات الميناء لخمس سنوات، متذرعاً بأن الشركة الفرنسية المستثمرة للمحطة تصرّ على استمرار إدارتها لها، مستندة إلى مبدأ "القوة القاهرة"، من زاوية أنها حُرمت من أرباح استثمارها في الميناء، جراء الفوضى الأمنية والسياسية التي أعقبت العام 2011. وفي سبيل إقناع طهران، وافق النظام على دفع قسم من عائدات الميناء لرد جانب من الديون الإيرانية المترتبة عليه، وذلك وفق ما كشفت عنه تسريبات الوثائق الرسمية التي أصدرتها المجموعة الإيرانية المعارضة "انتفاضة حتى الإطاحة"، والتي كانت قد اخترقت خوادم خاصة بالرئاسة الإيرانية، خلال العام 2023.

هذه المساومة بين النظام وإيران، تطلبت أشهراً، بحيث تأخر تمديد عقد إدارة الشركة الفرنسية لمحطة حاويات اللاذقية، من تشرين الأول/أكتوبر 2019، حتى صيف العام 2020. وفي نيسان/أبريل 2023 قال وزير الطرق في حكومة الرئيس الإيراني الراحل، إبراهيم رئيسي، إنه تم الاتفاق مع الجانب السوري على استثمار ميناء اللاذقية لاستقبال سفن الحاويات الضخمة، وزيادة الطاقة الاستيعابية والشحن المنتظم عبره. كانت تلك إشارة مبكّرة لرغبة إيران في اقتناص الميناء الذي كان من المفترض أن يخرج من عباءة الشركة الفرنسية CMA CGM في تشرين الأول/أكتوبر 2024. وجاء تصريح الوزير الإيراني حينها، قبل أيام فقط، من زيارة إبراهيم رئيسي إلى دمشق، في أيار/مايو 2023، والتي وقّع فيها بشار الأسد عقد إذعان للمطالب الاقتصادية الإيرانية، تحت عنوان "مذكرة تفاهم لخطة التعاون الشامل الاستراتيجي طويل الأمد" بين البلدين.

في الأشهر التالية لزيارة رئيسي، عمل الأسد على التملص من الضغوط الإيرانية لسداد الديون المفروضة عليه، والتي قدّرها الإيرانيون بأكثر من 50 مليار دولار. لكن إدارة رئيسي كانت حريصة على تقليص هامش المناورة أمام رأس النظام السوري. وخضع ميناء اللاذقية للمساومات في وقت مبكّر هذه المرة. ولم ينتظر النظام حتى انتهاء عقد الشركة الفرنسية. ففي تشرين الأول/أكتوبر 2023، تحدثت صحيفة "تشرين" الرسمية عن سعي النظام لتجديد العقد مع الشركة الفرنسية، جراء التزامها باستمرارية العمل في الميناء، "رغم الظروف القاهرة في البلاد على مدار السنوات الماضية".

جاءت تلك الإشارة من جانب نظام الأسد، بعد نحو أسبوعين على بدء الحرب الإسرائيلية على غزة، وما عُرف بـ"حرب الإسناد" من جانب حزب الله. ورغم أنه لا توجد أية معلومات توضّح كيف استطاع الأسد إقناع إيران بتقبّل خسارتها لميناء اللاذقية، لخمس سنوات تالية، أو ماذا أعطاها بالمقابل، لكن يمكن تخمين أن الفيتو الإسرائيلي بهذا الخصوص، كان واحداً من أبرز أدوات الإقناع تلك. فالميناء تعرّض للاستهداف الإسرائيلي بالفعل، عدة مرات، منذ نهاية العام 2021، بذريعة تمرير شحنات سلاح إيرانية عبره. ولأن الميناء يشكّل شرياناً حيوياً للاقتصاد السوري، يستطيع ممثلو النظام أن يجادلوا نظراءهم الإيرانيين، بأنه لا يمكن تحمّل تعريضه للاستهداف الإسرائيلي.

وفي الختام، إن أردنا أن نقدّم توصيفاً سياسياً لخبر تمديد العقد مع الشركة الفرنسية، فنستطيع أن نقول إنه استقرارٌ لموطئ القدم الفرنسية بالساحل السوري. فالشركة التي يديرها آل سعادة، المقرّبون من الرئيس إيمانويل ماكرون، تعدّ إحدى أيقونات الاقتصاد الفرنسي، وإحدى الأذرع البارزة لنشاطه الخارجي. وبذلك نجح الأسد، في التملص قليلاً أكثر خارج العباءة الإيرانية، ليحافظ على "شعرات معاوية" العديدة التي يمدّها مع قوى دولية وإقليمية أخرى.