حزب الله وشيزوفرينيا الأخلاق في زمن الحرب
مساء السبت، السابع والعشرين من تشرين الأول/أكتوبر الماضي، أصدر حزب الله إنذاراً لإسرائيل بإخلاء 25 مستوطنة من سكانها بسبب استخدامها "من قبل الجيش الإسرائيلي في الهجوم على لبنان". ولكي يكون الحزب دقيقاً، فقد ذكر أسماء المستوطنات المقصودة، ومعظمها كانت قد أخليت بالفعل، بعدما اعتبرتها إسرائيل مناطق عسكرية مغلقة.
هذا البيان غير المسبوق من حزب الله، جاء على ما يبدو رداً على طريقة إسرائيل "المبتكرة" في حربها مع الحزب، حيث دأبت قواتها على توجيه إنذار بالإخلاء للمناطق المستهدفة في الجنوب والضاحية أو البقاع، قبل القصف، على عكس ما تفعله في غزة مثلاً، حيث يجري القصف من دون إنذارات من أي نوع.
وسيكون من الصعب، اعتبار هذا النمط من التنبيهات عملاً أخلاقياً، على اعتبار أن الحرب بأكملها ليست كذلك. لكن الحرص على تدمير البنايات، أو الاكتفاء باستهداف المتحاربين دون المدنيين، هو أفضل بكثير (ضمن الجدل الأخلاقي إياه) من القصف المفاجئ الذي يستهدف الحجر والبشر، ولا يميز بين مسلحين ومدنيين.
من المرجح أن حزب الله يعرف أن المستوطنات التي قام بإنذارها لم تعد تأوي سكاناً مدنيين منذ عدة أشهر، وبعضها منذ أكثر من عام. ولذلك، تحذيراته كانت ذات هدف نفسي وإعلامي، على أساس المقابلة بالمثل، ولإظهار القدرة على تهجير السكان في إسرائيل، كما فعلت إسرائيل بحق نحو مليون و500 ألف لبناني. ولذا، فقد استخدم المحللون والسياسيون القريبون من الحزب هذا التحذير بشكل متكرر، للدلالة على "قوة" الحزب وقدراته في تهجير الإسرائيليين، حتى لو كانت التقارير الصحافية لا تشير إلى تهجير أحد في هذه المستوطنات شبه الخالية أصلاً.
لكن، ما فعله الحزب كان له وقع آخر، على من خاض معه معاركه من قبل، وبالتحديد في سوريا، حيث أمضى حتى الآن نحو 13 عاماً، وهو يقاتل دفاعاً عن النظام، ويتصدر قوى المحور الإيراني هناك. وقد استدعت مبادرة الحزب لإنذار الإسرائيليين مقارنات صعبة وقاتمة، مع سلوكه مع القرى والبلدات والمدن السورية، حينما كان يقصفها من دون تمييز، من البر والجو، بالقذائف والبراميل، وسائر القنابل الغبية، على المساكن والأسواق والمساجد والمدارس، وكل مكان يتواجد فيه مدنيون. لم تصلهم إنذارات ولا تحذيرات مسبقة، بل قذائف مباشرة، كانت تقتل أولاً، النساء والأطفال وسائر المدنيين.
كان من الأفضل لحزب الله ألا يتشبّه بإسرائيل في موضوع التحذيرات المسبقة تلك. فذلك ليس من شيمه، كما أنها كانت حركة فيها قدر من التقليد غير المبرر وأيضا غير الناضج. فالمستوطنات خالية، والجانب الدعائي مكشوف. وكل ما فعله الحزب أنه جعل ضحاياه الكثر، يسترجعون أساليبه ويقارنونها بما يفعله مع إسرائيل.
وحتى قبل أن يقوم بتقليد حركة الإنذارات هذه، فهو يحافظ منذ أكثر من عام على الالتزام بقصف المواقع العسكرية دون المدنية، قدر ما يستطيع، باستثناء حالات ربما لم يتقصدها. وقد يكون هذا أحد أسباب محدودية الخسائر البشرية بين المدنيين الإسرائيليين، حتى بعد تطوير القصف ليشمل مدن إسرائيل الكبرى مثل حيفا وتل أبيب. وهو يستمر بذلك، رغم أنه يتهم إسرائيل بقصف المناطق السكنية والمدنية، وتدمير أحياء وبلدات وقرى بكاملها في الضاحية والجنوب. ذلك كله أمر يمكن تقييمه من المتخصصين في الحروب وأخلاقياتها. لكن ما يهم هنا، هو السؤال سبب هذا النمط الذي يتبعه حزب الله في الحرب مع إسرائيل، رغم أنها تريد تدميره، وقامت بتهجير مئات الآلاف من أنصاره، ودمرت حياتهم، فيما قام من قبل (وما زال يقوم) بالحرب ضد السوريين على قاعدة الأرض المحروقة، ببشرها وحجرها، وكأن هدفه القضاء على جنس بشري أو على شعب كامل، وليس الحرب ضد مسلحين معارضين لنظام متحالف معه.
ما الذي جعل حزب الله "أخلاقياً" في الحرب مع إسرائيل، حساساً في استهداف المدنيين فيها، له "قواعد اشتباك" معها، ويمكن أن يصل معها إلى تسوية مرضية له ولها، في حين أنه كان مع السوريين موغلاً في القسوة، فاجراً في الخصومة، يعتبر الكل عدواً لا قيود على قتله وتدميره وتهجيره، ليس له معهم قواعد ولا يقبل منهم تسويات، ولا حساسية عنده حتى تجاه الأطفال الذين قام بمحاصرة بلداتهم في عدة مناسبات حد موت المئات منهم جوعاً ومرضاً، وكان عناصره وقياداته يفخرون بذلك علناً وعلى رؤوس الأشهاد؟
هل هي شيزوفرينا ما تصيب البعض، أفراداً وجماعات، أم أنها الأجندات المسبقة، أم هي حسابات خوف وهيبة توضع لجهة ما، فتجري "مجاملته" بتوخي القواعد والأخلاق سعياً لتسوية معه، أو طمعاً في أن لا يسير في الحرب حتى نهاياتها، فيما لا يوضع الاعتبار لآخر، فلا يكون مصدراً للخوف، أو طرفاً مدعوماً من قوة كبرى، وليس عنده قنابل ضخمة وطائرات حديثة.. ولذلك لا يصبح قتله بلا رادع فقط، لكنه يتحول إلى "متعة"، ويشمل ذلك المدنيين بشكل خاص. فنساؤهم، هم زوجات أو بنات أو أمهات "المقاتلين الأعداء"، وأطفالهم، هم مقاتلون محتملون في المستقبل، لذا يجري القضاء عليهم مقدماً. هي حقيقة محنة كبرى، وتساؤلات خطيرة، تثيرها حرب الحزب التي يخوضها بعد حربه في سوريا، والمقارنة بين الاثنتين ضاغطة ولا يمكن أبداً التغاضي عنها.