أمستردام وفزاعة "معاداة السامية" الإسرائيلية
في تحليل معمق لما وقع في أمستردام الأسبوع المنصرم لفريق كرة القدم الإسرائيلي ومشجعيه، رأى الكاتب الروسي أن البوغروم (كلمة روسية: مذبحة لا تصل إلى مستوى الهولوكوست) بدأ في أمستردام، وكان يمكن أن يقع في أي مكان آخر، وهو على الأرجح سيقع مرة أخرى. ولم يمض سوى أسبوع على هذا التوقع، حتى تكرر في باريس مساء الخميس المنصرم ما وقع في أمستردام الخميس الذي سبقه. لم يكن الأمر يتطلب قوة تنبؤ كبيرة للقول بأن أمستردام ستتكرر مع كل إطلالة إسرائيلية في أوروبا، بعد أكثر من سنة من القتل والتدمير الإسرائيلي في غزة ولبنان، أشعل شوارع أوروبا بالاحتجاجات على المذبحة، ورفعت أعلام فلسطين.
بعض المحللين الروس المعارضين لنظام بوتين رأى في أحداث أمستردام شبهاً بـ"ليلة الكريستال" التي نظمتها العصابات الهتلرية ضد اليهود العام 1938. واعتبر أن غزة وجرائم إسرائيل ضد الفلسطينيين، قد تكون السبب المباشر الذي فجر تلك الاضطرابات في أمستردام. لكن الأسباب الحقيقية تتجاوز غزة وفلسطين، وتتجاوز كذلك الفزاعة الإسرائيلية الأبدية، العداء للسامية، بل هي تكمن في المجتمعات الأوروبية الحديثة والتيارات اليساروية وسط الأجيال الشابة.
الجرائم التي ارتكبتها إسرئيل ولا تزال، وأوصلتها إلى المحكمة الجنائية الدولية بتهمة "الإبادة الجماعية"، أبطلت مفعول سلاحها التقليدي ـــ العداء للسامية ـــ الذي ترفعه بوجه كل انتقاد لما تأتيه. لم يتوقف أي من الكتاب والمحللين الروس في تناولهم لأحداث أمستردام عند مشاركة إسرائيل في الدوري الأوروبي لكرة القدم، بل أصبح انتساب إسرائيل إلى الغرب، وليس إلى الشرق الأوسط، بديهة مسلم بها. ولم تشذ عن هذه "البديهة" صحيفة الكرملين vz التي نشرت في 14 الجاري نصاً لكاتب "شجاع"، حسب وصف أحد القراء لتجرؤه على التعرض للفزاعة الإسرائيلية، "العداء للسامية". استهل الكاتب Andrey Perla نصه بتعبير للمسرحي، ومغني الراب السوفياتي الكبير الراحل قلاديمير فيسوتسكي، حيث يقول "ولماذا علي أن أُحتسب على الزعران وقطاع الطرق، أليس من الأفضل لي أن أكون معادياً للسامية".
قال الكاتب بأن فيسوتسكي لم يكن يعرف من هم الساميون، بل اكتشف لاحقاً أنهم اليهود البسطاء، ومن بينهم شارلي شابلن، وأنهم ضحايا الفاشية. ومعرفة الأوروبيين والروس باليهود شبيهة بمعرفة فيسوتسكي ضحايا الفاشية. والبروباغندا الإسرائيلية بأسرها مبنية على حقيقة أن هتلر حاول إبادة اليهود عن بكرة أبيهم، لكنه لم يتمكن من إبادة سوى 6 ملايين منهم. وعبارة "اليهود، الشعب الضحية" تبرر بها إسرائيل وجودها وكل أعمالها، بما فيها، بل وبالدرجة الأولى، تلك التي ينبغي أن تُعرف بأنها عدوان وإبادة جماعية. وكأن مأساة الشعب اليهودي تمنح الإسرائيليين الحق في معاملة ممثلي الدول الأخرى "دعونا لا نخرق أي قوانين". ولنقل، كأن ذكرى المحرقة تمنحهم الحق في معاملة ممثلي الشعوب الأخرى وكأنهم لم يواجهوا أي شيء مماثل، بل تفرد به الإسرائيليون فقط.
يضرب الكاتب مثالاً على هذه المعاملة ما وقع في أمستردام من شغب إثر مباريات كرة قدم بين فريق إسرائيلي وآخر هولندي. أحداث الشغب المماثلة أكثر من أن تحصى. لكن ملك هولندا وجد لزاماً عليه أن يتذكر المحرقة في اعتذاره من إسرائيل، حيث يقول بأن هولندا خذلت الجالية اليهودية الهولندية في الحرب العالمية الثانية، "وخذلتها مجدداً ليلة أمس". في الحرب العالمية الثانية، من بين مئات آلاف اليهود الهولنديين، نجا 30 ألفاً، "لكن الآن ماذا"، يتساءل الكاتب مستهجناً، إذ ما علاقة المحرقة وضحاياها بشغب رياضي يكاد يقع إثر كل مباريات كرة قدم. لكن البروباغندا الإسرائيلية صورت الشغب هذا بأنه "بوغروم"، وبأن الجهاديين طاردوا اليهود في أنحاء أمستردام، ونقل خمسة أشخاص منهم إلى المستشفيات.
يتوقف الكاتب عند سلوك المشجعين الإسرائيليين المستفز لمشاعر الفلسطينيين والهولنديين الذي ساروا في مظاهرات الاحتجاج على جرائم إسرائيل، ويتساءل "ما الذي تفعله الفرق الرياضية ويفعله المشجعون الإسرائيليون في أوروبا". لكن بنية الغرب المعاصر تحظر طرح مثل هذا السؤال. وحتى التفكير على هذا النحو لا يجوز بحال من الأحوال، وإلا سوف تتطاير في فضاء الأثير في الحال كلمات "معاداة السامية"، "الهولوكوست" و"بوغروم". ويتبين أن إسرائيل هي "الدولة التي يجب على العالم كله أن ينحني لها، يجهر بالتوبة ويشكرها".
أحد القراء علق على المقالة بالقول: الكاتب رجل شجاع، كل الإحترام له. لا يجرؤ الجميع على كتابة شيء كهذا عن إسرائيل واليهود. قراءة المقال ممتعة!.
اتهمت إسرائيل الأجهزة الأمنية الهولندية بالتقصير في حماية الإسرائيليين في أمستردام، على الرغم من تحذيرها لهذه الأجهزة من إمكانية حصول عمل إرهابي ضد الإسرائيليين. وتحسباً لعدم تكرار مثل هذا التقصير في فرنسا، وصل إلى باريس يوم المباراة رئيس جهاز الشاباك الإسرائيلي لعدة ساعات للإشراف شخصياً على التدابير الأمنية المتخذة. هذا التشدد في التدابير الأمنية يعكس مخاوف إسرائيل المتزايدة على أمن مواطنيها في البلدان الأوروبية، حسب موقع Vesti – Ynet الناطق بالروسية والتابع لمجموعة يديعوت أحرونوت.