حنين لصراعاتنا العربية

صبا مدور
الأحد   2024/10/13
الكثيرون وجدوا أنفسهم تائهين بين مشروع إيراني وآخر إسرائيلي (Getty)

على خلاف كل الحروب العربية الإسرائيلية السابقة، ترافقت الحرب على غزة، ثم على لبنان، مع مواجهات حامية في المجال العام، وعلى المنصات بين جمهور عربي، كان يقف في مثل هذه الحروب من قبل في مركب واحد، قبل أن يتحول اليوم إلى فريقين يتبادلان الاتهامات ما بين "صهينة" و "أيرنة".

المؤكد، أن الجزء الأعظم من المتهمين ليسوا موالين لإسرائيل، ولا مهتمين بالعمالة لإيران، لكن الحرب كشفت ما كان مخفياً أو غير واضح للمختلفين ذاتهم من أمر انقسام الشارع العربي حول هوية العدو، والتيه الذي وجدوا عليه أنفسهم بين مشروع إيراني وآخر إسرائيلي، لا يريد الغالبية الانتساب إلى أي منهما، فاكتفوا باتهام "الخصوم" بذلك.

الخلاف، وربما العداء والاستعداء، ليس طارئاً، ولا هو بالهين. هو خلاف جوهري حول من هو العدو الذي يجب أن نقاتله، أو على أقل تقدير، من هو العدو القريب الداهم، ومن هو البعيد الذي يأتي دوره لاحقاً. وبين من يضع إيران أو إسرائيل في أحد الموضعين، جرى جدل كثير، واتهامات وسوء فهم عميق. وزاد الأمر على ذلك، حينما اعتبر البعض أن إيران أصلاً ليست عدواً، بل هي حليف وشريك يدعم المقاومة في فلسطين، وتقاتل أذرعها معها ضمن "محور المقاومة". ولذا، جعلها عدو قريب أو بعيد، هو نمط من "خيانة" المقاومة، وخدمة إسرائيل و"تصهين" واضح، عرف به صاحبه أم لم يعرف.

على الطرف الآخر، يقول خصوم إيران، أنها ليست شريكاً ولا صديقاً، واتهموها بارتكاب انتهاكات جسيمة في سوريا والعراق واليمن ولبنان، مباشرة أو من خلال أذرعها المشتركة اليوم ضمن "المحور"، وأبرزها بالطبع حزب الله. وأن هذه الانتهاكات ليست مجرد حوادث معزولة، بل هي جزء من مشروع توسعي كبير، هدفه السيطرة الجيوسياسية والديموغرافية على منطقة المشرق العربي.

الخلاف بين الطرفين، ظهر بمجرد بدء الحرب على غزة. قبل ذلك، كان الخلاف ينحصر بين مؤيدي إيران وبين خصومها، على خلفية ما حدث في سوريا ومن قبلها العراق ولبنان، وبعدها في اليمن، ولم تكن إسرائيل في المشهد حينها. فلما حضرت، صار مؤيدو طهران ينبذون خصومها بالانحياز لإسرائيل. وسادت الاتهامات المجانية بـ"لصهينة"، وانساق معهم متحمسون كثر في الشارع العربي، بعضهم من النخب التي روجت للمصطلح، سيراً مع الركب، أو بقصد الترهيب، لوقف الجدل المتعلق بأحقية إيران في التطهر من دماء مئات الألوف من العرب لمجرد أنها تدعم المقاومة في غزة.

وبالطبع، ففي المقابل، اتخذ أصحاب الخندق الآخر، وغالبيتهم سوريون وعراقيون ويمنيون ولبنانيون، اتخذوا موقفاً صارماً تجاه إيران، يعتبر أن الموقف من الحرب على غزة لن يغفر ما ارتكب من جرائم في بلدانهم، وأن دعوتهم للتمترس في خندق تشارك فيه إيران، هو ضرب من انعدام المنطق، والتخلي عن دماء وآلام ملايين الضحايا، لا سيما وأن إيران ما زالت حاضرة في هذه البلدان، تقوم بأدوارها نفسها. فإن لم تراع قوى المحور الحرب على غزة لتتصالح مع الشعوب التي تعتبر أنها تعرضت للتمزيق والتدمير، فلماذا يطلب منها أن تتناسى ما حصل وكأنه من الماضي البعيد، في حين أنه ما زال قائماً من دون هوادة. أصحاب هذه الرؤية، اعتبروا من يصر على دعوتهم لما يكرهون ويرفضون، "متأيرناً" يتعلق بحبال إيران، ويتبنى سردياتها، وصار جزءاً من مشروعها، رغم أن كثيراً من هؤلاء لم يقصدوا ذلك، ولا يعرفون أصلاً ما هو المشروع الإيراني ولم يروا من المشهد سوى آلام غزة والحرب عليها.

المفارقة الموجعة وسط هذه الثنائية، أن أحدا لم يشر في هجومه أو دفاعه إلى مشروع عربي. بل لم يكن هناك اتهامات بالولاء لبلد عربي ضد بلد عربي آخر، كما كان يحصل أيام صراعات العرب مع بعضهم البعض، حتى كأننا بتنا نفتقد مرحلة تلك الصراعات، حيث كان الناس على الأقل جزءاً من محاور عربية في النهاية، وعند الحرب مع إسرائيل يتوحد الجميع من دون استثناء.

اليوم نحن وسط تبادل السهام بين محورين يتصارعان على أرضنا، وعلى ولائنا، وفيما لا يحارب أحد منهما لنا أو من أجلنا، فإننا نغرق في الخلاف والضغائن، حول أي الطرفين أقرب بالعداوة إلينا.