ماذا يجري في دير الزور؟
ماذا حدث؟
في مطلع الصيف الحالي، نشرت وسائل إعلام أميركية، نقلاً عن مصادر استخباراتية أميركية، معلومات عن مشروع لإخراج القوات الأميركية من شرق سوريا، تعمل عليه كل من إيران ونظام الأسد وروسيا. وبُعيد ذلك، بدأت تتصاعد المؤشرات الملموسة، من الاحتكاك المباشر بين الطيران الحربي الروسي والأميركي في سماء سوريا، إلى تحركات واسعة للمليشيات الإيرانية في شرق الفرات، إلى استنفار القوات الأميركية في عموم المنطقة وزيادة احتياطها من الأسلحة والمقاتلين.
في شرق الفرات تحديداً، وعلى حين غرّة، تم جلب أفواج تتبع لـ"قسد" من مناطق متعددة لتتمركز في ريف دير الزور، في محيط القاعدتين الأميركيتين في حقل العمر النفطي ومعمل كونيكو والشريط النهري الذي يضم معابر نهرية تصل بين مناطق سيطرة "قسد" ومناطق سيطرة المليشيات الإيرانية وقوات النظام. واندلعت على اثر ذلك، احتجاجات وأعمال عنف بسبب ما قيل انه انتزاع للصلاحيات من مجلس دير الزور العسكري المكون من العشائر المحلية، وتُوّج ذلك بإذاعة قائد المجلس احمد الخبيل، منشورات صوتية أعلن فيها ما يشبه التمرد على قوات سوريا الديموقراطية التي ينضوي مجلسه تنظيمياً تحتها.
عند هذا الحد، هدأت الأحداث ظاهرياً، وشاعت روايتان متناقضان. الأولى تقول إن "قسد"، بضغط من التحالف الدولي، تفاهمت مع الخبيل وتمت تسوية الأمور بينهما. فيما قالت الأخرى أن قيادة "قسد" قدمت للتحالف الدولي أدلة قاطعة على ضلوع الخبيل ومجلسه العسكري مع النظام والمليشيات الإيرانية في مخطط للانتفاض على "قسد" وقوات التحالف معاً، وبالتالي فإن أمر حلّ مجلس دير الزور العسكري بات مسألة وقت ولا مفرّ منه.
ما الذي يحدث الآن؟
مساء يوم 28 آب الجاري، أعلنت "قسد" استنفار قواتها في الحسكة ودير الزور، وبثت خبراً غير رسمي عن هروب عناصر من تنظيم داعش من سجن غويران. وبعد مضي أقل من ساعة، تبين أن الخبر الوهمي كان للتغطية على تحرك لقوات "قسد" وإلقاء القبض على أحمد الخبيل واثنين من قادة المجلس البارزين عند ذهابهم إلى مدينة الحسكة للقاء قيادة قوات سوريا الديموقراطية، فيما ألقت قوات التحالف الدولي في حقل العمر القبض على قائد ثالث من ذلك المجلس. وتصاعدت الاحتجاجات من أقارب الخبيل أولاً، ثم توسعت الدائرة بسرعة كبيرة، وتم الإبلاغ عن عشرات الهجمات التي تنسب لـ"مقاتلي العشائر ومجلس دير الزور العسكري"، ولم يظهر أي شخص معروف أو قائد عسكري يتبنى هذا الحراك، أو يقود مطالبه.
وانجرف الصراع بسرعة إلى قتال من أجل طرد "الأكراد" من دير الزور، وهنا أيضاً ظهر نوعان من التفسيرات لما يجري. الأول يقول أن أبناء العشائر العربية قد نفذ صبرهم من الهيمنة الكردية، وأنهم يرون في حلّ المجلس العسكري خطوة أخيرة للإطباق عليهم، وقد خرجوا لكسر الطوق الأخير الذي يريد الأكراد فرضه على رقابهم. والمقولة الثانية تشير إلى مجموعات من المقاتلين وكميات من الأسلحة التي ضخت إلى المنطقة من مناطق سيطرة المليشيات الإيرانية المتهمة بأنها هي من تحرك اللعبة بكاملها، بما فيها تسليم ما قيل أنها أدلة على تورط المجلس العسكري وقيادته في التعاون معها، ونحن نرجح كلا التفسيرين ومجموعهما.
ما السيناريوهات المحتملة؟
لا يمكن الإنكار أن الحرس الثوري يضع نصب عينيه هدف السيطرة على مناطق شرق الفرات. وإذا صحت الشائعات المتداولة، فأنه قد وضع قدمه في تلك المنطقة فعلياً مستغلاً الفوضى التي اصطنعها بنفسه. لكننا نعتقد بأن المسؤول الأول عما جرى، وخاصة سفك الدماء، هو قوات سوريا الديموقراطية، ليس بمعنى أنها حاولت استغلال الظروف لإحكام هيمنتها على المنطقة، بل لأنها على تعاون وثيق مع المليشيات الإيرانية على أساس حسابات استراتيجية تتعدى منطقة دير الزور. ولدينا على هذا الصعيد دليلان بارزان. الأول، هو إعلانها بشكل رسمي بأنها لن تحارب إيران في سوريا، والثاني الضربة التركية لاجتماع ضم قادة من قسد وقادة المليشيات الإيرانية في مدينة نبل شمالي حلب، قبل أسبوع واحد فقط من تفجر الاشتباكات. ويمكن التفكير ببساطة بصفقة ما بين قيادة حزب "ب.ك.ك" وإيران في ملف ما، يتم من خلاله مساعدة الحرس الثوري في السيطرة على الضفة الشرقية لنهر الفرات مقابل مكسب محدد، لا سيما أن تلك الضفة مصدر صداع وقلق دائم لقادة قسد من الأكراد.
وما نتوقعه خلال الأيام والساعات المقبلة هو مزيد من العمليات العسكرية في المنطقة، وقد نشهد الإعلان عن سيطرة قوات النظام والمليشيات على مناطق معينة، وبدء الضغط العسكري على القواعد الأميركية لإجبارها على الانسحاب. وفيما تدور دوائر هذه الالعاب بين القوى الكبرى، يستمر نزيف المنطقة وسكانها الذين سحقتهم الحروب العديدة، وكانوا على الدوام وقودها الرخيص.