المعارضة السورية: فصّ ملح
أعلى ما يمكن تشبيه المعارضة السورية به أنها، على غرار المثل الشائع، فصّ ملح وذاب. يتضمن التشبيه أن الأصل لم يكن ذا شأن كبير، قبل أن يذوب في مياه رُعاته. ثم يزداد ذلك فداحةً بالإشارة إلى أماكن تواجد هيئات معارضة رئيسية تحظى باعتراف دولي، فائتلاف المعارضة مقيم منذ سنوات طويلة في تركيا، وتستضيف السعودية الهيئة العليا للتفاوض.
قبل أيام تناقلت وكالات الأنباء والصحف خبر مبادرة الرياض تجاه الأسد، حيث من المنتظر أن يزور وزير خارجيتها دمشق بعد شهر رمضان ليسلّمه دعوة لحضور القمة العربية المقبلة. التطبيع التركي مع الأسد سبق نظيره السعودي، والاجتماعات المخابراتية تطورت إلى عسكرية، وأخيراً إلى سياسية وإن على مستوى نواب وزراء خارجية اللقاء الرباعي، وهو مكوَّن من ثلاثي أستانة+الأسد. أي أن المبادرة تجاه الأخير تأتي من البلدين اللذين يرعيان المعارضة، والأهم أن شروط التطبيع لا تلحظ وجودها.
لا ننطلق من توقعات أو أوهام حول المواقف أو التدابير التي يمكن أن يأخذها كلٌّ من الائتلاف والهيئة تجاه بلد الإقامة، فلا هذا ولا تلك في وضع يمكنهما من إعلان مواقف "راديكالية". نظرياً، ربما يكون الائتلاف في الموقع الأسوأ لوجوده في بلد جارٍ، وهناك ملايين السوريين تحت نفوذ هذا الجار الأكبر، والوصول إليهم تحت رحمته. أما عملياً فمن المعلوم أن أنقرة تتعامل في المقام الأول مع الفصائل، ولا تقيم اعتباراً للائتلاف أكثر مما تفعل الرياض إزاء هيئة التفاوض.
ليست الواقعية المفرطة ما يجعل الائتلاف والهيئة يرضخان بصمت، من دون إظهار أدنى تذمر من التغير في سياسات البلد المضيف. هو رضوخ التسليم التام، والقبول بأولويات البلدين على حساب الأولويات السورية، ولو كان الأمر خلاف ذلك لشرح الائتلاف أو الهيئة الفوائد المتوقعة من تطبيع أنقرة والرياض مع الأسد، هذا إذا افترضنا أنهما على علم بالحيثيات أكثر من أي متابع عادي للأخبار.
من دون تهويل يتعلق بنتائج التطبيع، لدينا بلد كان له في ما مضى دور أساسي في دعم تسليح فصائل معارضة، وأيضاً في دعم المعارضة في المحافل الدولية، والآن "تتويجاً لانسحابه وتهميشه معاً" يتخلى عن آخر ما يربطه بتلك المرحلة. ولدينا بلد آخر تتيح له الجغرافيا الإمساك بالعديد من الخيوط السورية، واستخدامه إياها لغير صالح المعارضة "أو المصالح المشتركة معها" يعني حرمان المعارضة من أوراق التفاوض جميعاً، بما أنها أصلاً قبلتْ بالمسار السياسي سبيلاً للحل.
إذا لم يكن في وسع هذين البلدين تقديم فوائد كبيرة للأسد، فهما يقدّمان له على الأقل فائدة تصفير قيمة المعارضة على نحو فاقع. أي أن الأسوأ، وفق المستجدات الأخيرة، لا منافس له حتى من موقع الأقل سوءاً؛ بقاؤه مفروغ منه لأن لا بديل مطروحاً ولو نظرياً. وعندما يماطل أو يسوّف في التطبيع مع أنقرة، رغم الضغط الروسي، فهو حتى إذا رضخ لاحقاً يظهر بقيمة أعلى لدى حلفائه من معارضة لا قيمة لها لدى رعاتها.
ربما لا تستحق هذه المعارضة التساؤل عن صمتها، أو متى تخرج عنه لتتخذ موقفاً يتناسب مع مسؤولياتها. إلا أن اليأس منها لم يكن طوال عشر سنوات تقريباً مثمراً أكثر منها، وخلال الفترة ذاتها لم نكن فقط إزاء امتناع تغيير الأسد، بل أيضاً إزاء امتناع تغيير معارضةٍ هناك شبه إجماع بين السوريين على كونها تمثيلاً سيئاً لما ثاروا لأجله. وتكرار القول أن الشأن السوري خرج من أيدي أصحابه هو توصيف شديد السهولة، بما أنه يُقال على سبيل التسليم به.
من المغري الظنّ أن هذه المعارضة، بكل سيئاتها، تؤدي وظيفة استقالة السوريين من قضيتهم. ونقدُها أتى في معظم الأحيان على سبيل التبرؤ منها، فلا هو من أجل تطوير عملها، وهو احتمال ميؤوس منه لدى غالبية المنتقدين، ولا هو من أجل القطيعة التامة معها بخلق أطر منافِسة لها. كأنما ثار السوريون مرة واحدة، ضد الأسد، وانتهت مسؤوليتهم عند هذا الحد. والحديث هنا ليس عن أولئك الذين تعرّضوا لأقسى عملية تحطيم وعلى كافة المستويات، إنه في أقل تقدير عن عشرات ألوف السوريين المناط بهم سدّ هذه الفجوة الفادحة، لكنهم تعففوا عن النشاط السياسي. من المحتمل جداً أن تكون للحالة السورية فرادتها، باستخدام هذا الكمّ من الذرائع لعدم الاشتغال في السياسة، الذرائع التي تبدأ بالتدخل الخارجي، ولا تنتهي عند هيئات المعارضة وكأنه قدر محتّم.
مرة أخرى بلا مبالغة تخص نتائج التطبيع مع الأسد، يجوز التساؤل عن تقاعس السوريين عن الدفاع عن قضيتهم في مفصل لا ينبغي الاستهانة به تماماً، ولا الاستهانة به باعتباره استمراراً أو تتويجاً لنهج دولي يحابي الأسد. التساؤل هو عن المسؤولية الجماعية للسوريين، غير الراضين منهم عن المعارضة أولاً، لأن هذه المعارضة ما كان لها البقاء برغبة الخارج لولا الاستقالة الجماعية للمعنيين بالاعتراض على ذلك.
لم يفُت الوقت على فعل شيء، ولن يفوت على ذلك ففي السياسة هناك دائماً ما يمكن فعله باعتبارها فن الممكن. المشكلة في المعارضة السورية بمعناها الواسع ليست أصلاً أنها تطالب بالمستحيل أو تسعى إليه، المشكلة هي أنها لا تفعل الممكن. وأول الممكن هو الانقلاب على الاستقالة من الشأن السياسي، وهو ما سيكون بمثابة تحمّل ناضج لتبعات الثورة على الأسد، ومهما كانت نتائجه فستكون أفضل من التغنّي بالمظلومية السورية وتكرار ذلك وتوريثه.
سيكسب الأسد المزيد، عاجلاً أو آجلاً، بالغياب الكلي للمعارضة؛ بغياب البديل. ومع علمنا بأن التساؤل عن البديل لطالما استُخدِم بخبث إلا أن من مهمة المعارضين تقديم فهْم أعمق، يكون فيه البديل تجربة منظمة "أو أكثر" تحظى أولاً بالحد الأدنى من الاحترام في أوساط السوريين، وتبرهن على أن البديل عن الأسد ليس الفوضى أو العدم. البديل بهذا المعنى ليس بديلاً عن اختيار السوريين ممثليهم في ظروف ديموقراطية مستقبلاً، بل إنه سند للخيار الديموقراطي متى صار ممكناً، ورسالة إلى المجتمع الدولي عن أهلية السوريين التي تعيق التقرير نيابة عنهم وفي غيابهم. هذا صعب جداً؟ نعم، بلا شك هو صعب جداً جداً، ومن الأسهل دائماً عدم فعل أي شيء على الإطلاق.