في الديمقراطية الإسرائيلية وتناقضها مع الدولة المدنية الحديثة
وُصفت نتائج الانتخابات الأخيرة التي جرت في إسرائيل يوم 1 تشرين الثاني/ نوفمبر 2022، بصفاتٍ كثيرةٍ، منها أنها بمثابة انتصار الصهيونية على ما بعد الصهيونية، وأنها هزيمة نكراء لليسار الصهيوني التقليدي، ونكسة لليهود العلمانيين ويهود الدياسبورا... إلخ. ولكن الوصف الأكثر انتشارًا كان أنها تحمل في أحشائها "مخاطر على الديمقراطية". ومنذ انطلاق عمل الحكومة الإسرائيلية الجديدة (يوم 29 كانون الأول/ ديسمبر 2022) لوحظ أن الانتقاد الأكثر تداولًا في إسرائيل المُوجّه إلى هذه الحكومة، وهي السادسة برئاسة بنيامين نتنياهو، وتتسم أكثر شيء بأنها يمينية واستيطانية ودينية متطرفة، مؤداه أنها تحمل في أحشائها ما من شأنه أن يسدّد طعنة نجلاء إلى الديمقراطية في نموذج إسرائيل كـ "دولة يهودية ديمقراطية". وتبنّت هذا الانتقاد أيضًا جهات خارجية منها، مثلًا، صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية التي أنشأت عشية أداء الحكومة الإسرائيلية اليمين القانونية، مقالًا افتتاحيًّا حمل عنوان "نموذج الدولة اليهودية الديمقراطية في خطر"، أكدت فيه أنه بينما فاز نتنياهو في الانتخابات بشكلٍ منصفٍ، فإن القوة البعيدة المدى التي يقدمها إلى شركائه اليمينيين المتطرفين والحريديم (اليهود المتشددون دينيًا) توجِدُ تهديدًا حقيقيًا للقيم الديمقراطية. وقالت هيئة تحرير "نيويورك تايمز" إنها مؤيدة قوية لإسرائيل، ولحل الدولتين للصراع مع الفلسطينيين، وستبقى كذلك، ولكن حكومة نتنياهو المقبلة تشكل تهديدًا كبيرًا لمستقبل إسرائيل واتجاهها وأمنها، وحتى لفكرة "الوطن اليهودي". وأشارت إلى أن الحكومة الجديدة "تمثل انحرافًا نوعيًا ومثيرًا للقلق عن جميع الحكومات الأُخرى في تاريخ إسرائيل الممتد على مدار 75 عامًا"، كما أشارت إلى أن فوز الكتلة التي يقودها نتنياهو في الانتخابات بـ 64 مقعدًا من مجموع 120 مقعدًا في الكنيست لا يمنحها تفويضًا واسعًا للقيام بتنازلات لأحزاب متدينة متشددة وقومية متطرفة.
وانطلق مثل هذا الانتقاد، إسرائيليًا وعالميًا، من واقع كون الحكومة الإسرائيلية الجديدة تضم وزراء على شاكلة إيتمار بن غفير الذي أدين في إسرائيل عام 2007 بتهمة التحريض على العنصرية وتأييد منظمة إرهابية، وتسلم منصب "وزير الأمن القومي" في حكومة نتنياهو السادسة، وبتسلئيل سموتريتش الذي يؤيد ضم الضم الغربية إلى إسرائيل وتسلّم منصب وزير المال وستكون لديه صلاحيات في وزارة الدفاع فيما يتعلق بشؤون الضفة الغربية عمومًا وموضوع الاستيطان فيها خصوصًا. وأسند إلى آفي ماعوز، الذي يعرّف نفسه بأنه من دعاة الهوموفوبيا، منصب نائب وزير في ديوان رئاسة الحكومة وسيكون المسؤول عن "الهوية اليهودية".
وبن غفير هو أحد تلاميذ الحاخام مئير كهانا، مؤسس حركة "كاخ" الفاشية (أعلنتها إسرائيل حركة إرهابية عام 1994). وفيما يخصّ الديمقراطية تحديدًا، دأب كهانا هذا على القول إنها "مستوردة من الغرب" و"مناقضة لليهودية" وهي "تدمّر الدولة القومية". وأكد أن الطريق إلى الخلاص اليهودي يجب أن تشمل، من ضمن عدة أمور أخرى، القضاء على الديمقراطية.
عند هذا الحدّ ينبغي القول إن كل الذين يصرخون بأن نموذج "الدولة اليهودية الديمقراطية" في خطر تحت وطأة الحكومة الجديدة، لا بُدّ أنهم يعرفون جيّدًا أن إقامة إسرائيل كانت على أساس عنصري لمجرّد أنها دولة يهودية، كما ورد في "وثيقة الاستقلال" ومثلما تكرّست وفقًا لـ "قانون أساس: القومية" الذي أقرّ عام 2018 بعد 70 عامًا من إقامتها ويعرّف إسرائيل بأنها الدولة القومية للشعب اليهودي، وينصّ على ترسيخ كون القدس عاصمة لدولة الاحتلال قانونيًا، وعلى أن اللغة العبرية هي اللغة الرئيسية لهذه الدولة، ويحدّد التقويم العبري بأنه التقويم الرسميّ لها.
ولدى إقرار هذا القانون لم تنطلق معارضة كل أعضاء الكنيست، الذين صوّتوا ضده، من الاستئناف المبدئيّ على الطابع اليهودي لدولة الاحتلال، وإنما من المطالبة بأن يظلّ تعريف إسرائيل بأنها "دولة يهودية وديمقراطية". في المقابل أشار الذين بادروا إلى هذا القانون إلى أنه يهدف إلى سدّ ما يصفونه بأنه "ثغرة دستورية"؛ وهي ثغرة نشأت مع تعريف إسرائيل، في بعض قوانينها الأساس، بأنها دولة يهودية وديمقراطية، بموازاة الافتقار إلى أي مضمون دستوري بشأن طابعها كدولة يهودية. وبرأيهم يؤدي هذا الواقع إلى نشوء فجوة كبيرة بين فكرة الدولة اليهودية، كما هي فعلًا، وبين مكانة إسرائيل الدستورية الفعلية. وهم يدعّون أن تراجُعًا دراماتيكيًا طرأ، خلال العقود الأخيرة، في الوزن الذي تقيمه المحكمة الإسرائيلية العليا لهوية دولة الاحتلال اليهودية، بالمقارنة مع الوزن الذي تمتعت به هذه القيمة خلال الأعوام الـ 44 الأولى من عمرها. ووفقًا لبعض الدراسات بهذا الشأن فإن العامل المركزي الذي أوصل إلى هذا الواقع هو غياب مرساة دستورية لطابع إسرائيل كدولة قومية للشعب اليهودي.
وترافقت كل هذه الطعون مع كشوف جديدة حول الوقائع التي شهدتها عملية صوغ نص "وثيقة الاستقلال"، الوثيقة المؤسِّسة لدولة الاحتلال، واستمرت نحو ثلاثة أسابيع، من 24 نيسان/ أبريل 1948 وحتى الإعلان الرسمي عن إقامة الدولة، يوم 14 أيار/ مايو 1948. وتؤكّد الكشوف أن تلك الوثيقة لم تتضمّن أي ذكر لكلمة ديمقراطية، على شتى تصريفاتها، ولو مرة واحدة فقط. وليس هذا فحسب، بل أيضًا أن تلك الكلمة استؤصلت من تلك الوثيقة عمدًا. وبناء على ذلك فإن التعريف العام الوحيد لإسرائيل في الوثيقة هو أنها "دولة يهودية"!
والمرة الأولى التي ظهر فيها مصطلح "دولة يهودية وديمقراطية" في سجل القوانين الإسرائيلي، كانت في عام 1992، مع سنّ قانونيّ أساس أرسيا قاعدة ما يُسمّى بـ "الثورة الدستورية" والتي قادها الرئيس السابق للمحكمة العليا، القاضي أهارون باراك، وهما "قانون أساس: كرامة الإنسان وحريته" و"قانون أساس: حرية العمل". وحدّد النص هدف القانونين بأنه "تثبيت قيم إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية ضمن قانون أساس". ويسري هذا الهدف، عمليًا، على الدستور المستقبلي المتكامل لإسرائيل. غير أنها لا تزال تفتقر إلى دستور حتى الآن.
وللعلم، نصّت وثيقة إعلان إقامة إسرائيل على أن يقوم مجلسها التأسيسي المُنتخب بإعداد دستور للدولة حتى فترة أقصاها الأول من تشرين الأول/ أكتوبر 1948. وشكلت الانتخابات التي جرت يوم 25 كانون الثاني/ يناير 1949 في حقيقة الأمر انتخابات للمجلس التأسيسي، لكنه عقد أربع جلسات فقط. وفي يوم 16 شباط/ فبراير 1949 صادق المجلس التأسيسي على القانون الانتقالي والذي حوّل نفسه من خلاله إلى الكنيست (البرلمان) الأول، وبما أن المجلس التأسيسي لم يقم بإعداد دستور، فالكنيست بات خليفة المجلس في هذه الوظيفة. واستمر الجدل بشأن الدستور إلى أن قرّر الكنيست الأول، يوم 13 حزيران/ يونيو 1950، قبول ما يسمى بـ "قرار أو تسوية هراري"، وبموجب ذلك ألقيت على عاتق لجنة الدستور والقانون والقضاء البرلمانية مهمة إعداد دستور للدولة يكون مؤلفًا من فصول متتابعة يشكل كل واحد منها قانونًا أساسًا ويتم عرض هذه الفصول على بساط البحث في الكنيست، وإذا ما انتهت اللجنة من عملها تتوحد جميع الفصول لتكوّن معًا دستور الدولة. وما زالت هذه المهمة مستمرة ولم تنته بعد... وسنّ الكنيست أول قانون أساس، وهو "قانون أساس: الكنيست"، بعد مضي عقد كامل فقط. وتبعته مجموعة أخرى من قوانين الأساس بلغ عددها الكليّ، حتى الآن، 13 قانونًا. وبموجب إحدى القراءات التفصيلية ينظر أنصار استئصال الديمقراطية إلى طريقة كتابة الدستور الإسرائيلي باعتبارها عملية تركيب قطع بازل Puzzle، تم خلالها حتى الآن تركيب 13 قطعة. وكما لا يجوز النظر إلى قطعة واحدة في هذا البازل لكشف مضمون صورته، من غير الممكن النظر إلى قانون أساس واحد وكشف ماهية الدستور.
برسم كل ما تقدّم، يشغل موضوع جوهر الديمقراطية الإسرائيلية العديد من الباحثين والخبراء على نحو يصعب حصره في هذا المقال. وبغية النمذجة على هذا الانشغال نشير إلى أنه قبل نحو 15 عامًا، في أيلول/ سبتمبر 2008، صدر في إسرائيل، بالتزامن مع الذكرى السنوية الستين لتأسيسها، كتاب بعنوان "ديمقراطية مغلولة" من تأليف الوزيرة وعضو الكنيست السابقة شولاميت ألوني (1928- 2014). ومن بين أمور أخرى، تشدّد ألوني على ضرورة الحفاظ على طابع إسرائيل الديمقراطي أكثر من طابعها اليهودي، وفي الوقت عينه تشير إلى كونها "ديمقراطية شاذة"، يسيء فيها الكنيست إلى نشاطات المحافل المدنية العاملة من أجل حقوق الإنسان ويشوّه سمعتها ويقرّر التحقيق معها، عوضًا عن الإشادة بها ومباركتها. وتلفت إلى أنه في سائر دول العالم ناضل الديمقراطيون ونجحوا في الإطاحة بالفاشية والحكم الاستبدادي، بينما في الكنيست الإسرائيلي تتغلب في الأعوام الأخيرة غريزة تصفية الآخر، وغريزة تكريس تسيّد النظام والسيطرة والسلطة للأغلبية اليمينية لمجرّد كونها كذلك، والتي تعبر عن غياب الفهم لماهية الديمقراطية، على أي منطق مغاير. وتنوّه بأن أحد أسباب ذلك يعود إلى حقيقة أن أوردة الديمقراطية الإسرائيلية حُقنت بالكثير من السمّ على أيدي حاخامين من رجالات ونساء الدين والتدين، ومستوطنين، وشتى أصناف الانتهازيين.
وفي مناسبة صدور هذا الكتاب عقدت أمسية خاصة في القدس، تكلم فيها أحد كبار أساتذة العلوم السياسية في إسرائيل، البروفيسور يارون إزراحي، فاختار طرح السؤال: هل إسرائيل ديمقراطية؟ وأجاب عنه كما يلي: "يمكن للمجتمع - وأنا أتحدث هنا كشخص منشغل أيضًا في التاريخ والأبحاث حول الديمقراطية- أن يكون ديمقراطيًا بنسبة 80 بالمئة على أكثر تعديل. وكي يكون كذلك ينبغي النضال 100 بالمئة من الوقت؛ لكن إسرائيل بعيدة جدًا عن أن تكون ديمقراطية (حتى) بنسبة 80 بالمئة. بحسب فهمي في هذا الموضوع فإنها شيء مختلط، وأستطيع قول ذلك على أساس أنها 40 بالمئة ديمقراطية، و30 بالمئة إثنوقراطية، و20 بالمئة ثيوقراطية، و10 بالمئة فوضى. وتتغير هذه النسب بصورة تاريخية".
وبرأيه إسرائيل ديمقراطية بنسبة 40 بالمئة، لأن "الأسس الديمقراطية الرسمية" متوفرة، على غرار انتخابات حرة، وتداول السلطة سلميًا من دون عنف لغاية مقتل رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق يتسحاق رابين في عام 1995، والذي شكل حدثًا مفصليًا، كما أن المحاكم مستقلة، وهناك صحافة حُرّة.
ولدى تعداد هذا الأستاذ الجامعيّ العوامل التي تحدّ من إمكان أن تكون إسرائيل ديمقراطية أكثر من النسبة المذكورة أعلاه، ذكر ما يلي:
أولًا، طالما كانت إسرائيل دولة محتلة، ترسل مواطنيها وجنودها من أجل قمع شعب بأكمله، فلا تستطيع التحوّط بالشرعية التي يوفرها مصطلح نظام ديمقراطي. وبهذا الشأن قال حرفيًا: "هذا أمر في منتهى الوضوح: نحن دولة احتلال خلافًا لكل القوانين والشرعيات الإسرائيلية والدولية".
ثانيًا، النظام الديمقراطي هو نظام تُقيّد فيه السياسة نفسها بواسطة دستور و/أو ثقافة سياسية من ضبط النفس. وهذان العاملان غير متوفرين في نظام إسرائيل، فلا يوجد دستور ولا ثقافة سياسية تقوم على ضبط النفس، وهما سمتان بارزتان للديمقراطية.
ثالثًا، إن الأكثرية في إسرائيل إثنية وليست سياسية. وما هي الأكثرية السياسية؟ إنها أكثرية يمكن أن تتبدل بين جولات الانتخابات، لكن الأكثرية في إسرائيل إثنية بصورة دائمة وهذا غير ديمقراطي، وليس صفة نموذجية للديمقراطية. ففي الولايات المتحدة مثلًا، التي تعتبر بطبيعة الحال دولة مختلفة عن إسرائيل في كثير من المعطيات والحيثيات، تتغير الأكثرية السياسية، أما في هذه الأخيرة فتتغير الأكثرية السياسية لكن داخل الأكثرية الإثنية، وهنا تكمن المشكلة.
وكي لا نقوّل إزراحي ما لم يقله بشأن دولة الاحتلال، يجب الإشارة إلى أنه يقصد بالاحتلال ذاك الذي حدث في عام 1967 فقط، بالأساس من حيث ارتباطه بمشروع الاستيطان في أراضي الضفة الغربية. ووفقًا لادعائه، لغاية هذا المشروع اللاشرعي، حاولت إسرائيل إيجاد وإقامة مؤسسات نموذجية لنظام ديمقراطي: فصل بين السلطات، دولة قانون، محاكم... إلخ. لكن منذ ذلك العام، نُفذّ مشروع ضخم من بناء المستوطنات بموافقة الحكومة وبتمويل تم تقديمه تحت الطاولة من جانب كل وزارات الحكومة، ما تسبّب- في قراءته- بإيجاد ثقافة مناوئة للديمقراطية بشكلٍ سافرٍ، تحت غطاء من الرسمية.
وحُكمه هذا فيه قدر من التحايل على واقع إسرائيل الذي لم يبدأ مع احتلال 1967. ويعود سبب هذا التحايل إلى عدم تكليف نفسه، مثله مثل معظم المنخرطين في هذا البحث، عناء النبش في جذور إقامة الدولة على أساس العقيدة الصهيونية، بل يقفزون عن تلك الجذور لمناقشة ما تلا قيامها من خطوات تأسيسية عامدة أفضت إلى ما هي عليه الآن، والأصح القول إنه ما كان من الممكن أن تفضي إلا إلى ما آلت إليه. ومن أبرز تلك الخطوات يُشار إلى مسألة عدم إعداد دستور.
وإجمالًا يمكن القول إن هناك إنكارًا عابرًا للأحزاب والحركات السياسية الإسرائيلية لماهية الدولة المدنية الحديثة النشأة، والتي لا يجوز بموجبها رؤية الدولة كأداة تنفيذية لجماعة إثنية، أو جماعة ثقافية معينة، وبالتأكيد لا يجوز رؤيتها كأداة لديانة مُحدّدة، فمثل هذه الرؤى تتناقض بشكل مطلق مع المفهوم الذي يرى الدولة منظومة حكم سيادية لا تخضع لأي منظومة خارجها، وملتزمة أولًا وقبل أي شيء بسلامة ورفاهية سكانها/ مواطنيها بغض النظر عن انتمائهم الديني أو الجنسي أو العرقي، وينبغي أن تكون دولة مدنية لجميع مواطنيها.