السُنّة كطائفة ذات احتياجات خاصة
مرّ كتفصيل عابر خبرُ انضمام النساء في إقليم بلوشستان إلى المظاهرات المعادية للحكم الإيراني، بعد خمسة أسابيع من المظاهرات العارمة التي أطلقها مقتل الكردية الإيرانية مهسا أميني. في اليوم الأخير من شهر أيلول، الذي أُطلقت عليه تسمية يوم الجمعة الدامي، قُتل اثنان وتسعون شخصاً في الإقليم بسبب مشاركة "رجاله" في الانتفاضة ضد الملالي التي عمّت إيران، وبرز منذ ذلك الوقت إمام جامع زاهدان بوصفه الشخصية الأبرز للمعارضة.
تأخرت مشاركة نساء البلوش حتى يوم الجمعة الأول من الشهر الحالي، وشوهد للمرة الأولى العشرات منهن يحملن الشعار الشهير: امرأة.. حياة.. حرية. التبرير الذي جرى تداوله للتأخير، ولقلّة المشاركات في المظاهرات، هو كون الإقليم السُنّي محافظاً ما يستبعد المشاركة الواسعة في المطالب التي يتضمنها الشعار. أما انتقاد إمام جامع زاهدان حكمَ الملالي فصوَّبَ على اتهام المتظاهرين بـ"المحاربة"، وهي تهمة عقوبتها الإعدام، وتحاشى الإمام تبنّي مطالب المتظاهرين الخاصة بحريات النساء، وهو ما حاولت السلطة ترويجه على سبيل "الإساءة" له.
إلى جانب كردستان إيران، دفع الإقليم السنّي الضريبة الأضخم من الدماء، واستسهال قتل المتظاهرين فيه أتى استئنافاً لتاريخ من تهميشه من قبل سلطة تعتمد دستوراً يعتبر المذهب الشيعي مذهباً رسمياً للدولة إلى الأبد. لكن الإقليم يبدو كأنه يستأنف التمييز الممارَس ضده من السلطة، ليتميز بأن من يقود احتجاجاته إمام، ويُفهم أن هذا الأخير لا خلاف له مع الملالي حول حريات النساء، ومعارضته إياهم مصدرها مظالم من نوع آخر. نحن، بعبارة أخرى، إزاء تكريس القناعة بأن السُنّة طائفة ذات احتياجات خاصة، ليس من بينها على الإطلاق المفهوم العميق والواسع للحريات الفردية.
وفق ما سبق، كأنّ هذه سمة أصيلة ومستدامة لدى السُنّة، ويمكن إعادة صياغة ذلك بمختلف العبارات، منها ما نصادفه هنا أو هناك لجهة وجوب مراعاة "المجتمعات السُنّيّة"، ويُفهم من هذه الإشارة وجوب مراعاة حساسياتها تجاه قضايا الحريات. منها أيضاً ما نصادفه هنا أو هناك من النظر إلى الإسلاميين، بمختلف تدرجاتهم، كممثّلين شرعيين للسُنّة، والسائد اعتبار أنهم يحتكرون تمثيل هذه الفئة بحيث لا يجوز لأحد من أبنائها مشاركتهم ادّعاء التمثيل، ما لم يكن منافساً لهم على الأرضية الأيديولوجية نفسها.
من وجهة النظر هذه، ثورة السُنّة لا يمكن أن تكون ثورة حريات، وهي في أقصى أحوالها ثورة لإصلاح أحوال الاستبداد، بما يجعله متناسباً مع تأويل كل جماعة إسلامية للنص الديني. نتحدث بالطبع عن صورة نمطية لا يرفض تعميمها من يدّعون تمثيل السُنّة، ويأتي الرفض غالباً من بعض النخب على خلفية رفض نظرة الغرب "الاستشراقية" التي ترى المجتمعات الإسلامية غير مؤهَّلة للحداثة، ومنها القبول بحرية غير مشروطة للأفراد.
لا يندر لدى البعض ذاته انتقاد ما يراه استشراقاً غربياً، ثم يكون من دعاة مراعاة الخصوصية السُنية عندما لا يكون خطابه موجَّهاً إلى الآخر الغربي. وقد تأتي الدعوة إلى مراعاة الخصوصية من مثقّفين "غير سُنّة" يتعاطفون مع السُنّة كقوم لهم احتياجات خاصة، أو من مثقّفين ذوي منبت سُنّي يرون أنفسهم في مقام النخبة المتفردة بمغادرتها تلك الخصوصية الحتمية لغيرهم.
في الحديث عن الخصوصية، لا يندر عدم التمييز بين جانبين؛ الخصوصية الثقافية والخصوصية الحقوقية. الأولى كما نعلم مركَّبة ومعقَّدة، وغير قابلة للقياس، وتأتي دعوات الحفاظ عليها غالباً مع الخوف من ذوبانها في ثقافات مهيمنة، أي من موقع الإحساس بالضعف والخوف. في الثانية، التي تظهر كاشتقاق بديهي من الأولى، تنص الخصوصية على أن المعنيين قاصرون بالمعنى القانوني، ولا يناسبهم ذلك الشطط الحقوقي الذي يحصل عليه آخرون في ثقافة مغايرة. بحسب هذه النظرة، يترواح الأمر بين محاذير الاستخدام السيء للحرية، وبين كون هذا النوع من "السوء" لا مهرب منه.
الطريق الثالث الذي ينادي به البعض، أو يتمناه، هو كسْرُ تلك الحلقة المفرغة بدخول متدرج إلى الحريات الفردية، مع أولوية مطلقة للحريات الجماعية وفي رأسها الحرية السياسية. ومع أن أولوية الانتقال الديموقراطي ملحّة حقاً في معظم بلدان المنطقة إلا أن فصلها عن قضية الحريات ككل "الفردية منها تحديداً" يظهر في معظم الأحيان كمطالبة بحرية مشروطة، أي على الطرف المقابل من الذين يشترطون للانتقال السياسي مجتمعاً جاهزاً بأكمله لتقبّل كافة الحريات، أو ما صار دارجاً تسميته بالهندسة الاجتماعية. ننوّه هنا بأن فكرة الإجماع على الحريات غير متوفرة في أيّ من المجتمعات الغربية، وشبهة الإجماع مصدرها الحماية القانونية للحريات.
في مثال بلوشستان الذي انطلقنا منه يبرز العامل السياسي كردّ فعل، لا على حكم الملالي فحسب بل على تهميش تاريخي أصاب البلوش من قبل القوميين والإسلاميين. للمفارقة، التعارض مع حكم الملالي هو رد فعل على تمييزهم المذهبي والعرْقي ليس إلا، ولولاه من المرجح أن يكون البلوش من أشد أنصار الملالي، ولا يُستبعد حينها وقوفهم على الضد من انتفاضة باقي الشعوب الإيرانية، ومنها الشيعة الفرس.
نقصد بمثال بلوشستان أن الرابط بين المطالبات السياسية وبين قضية الحريات ليس حتمياً، وإن التقيا في ظرف ما، فضلاً عن أن موقع البلوش كأقلية لم يخرج بهم عن الصورة النمطية السائدة عن السُنّة. وهو ما يعيدنا إلى السؤال عمّا يبدو تسليماً عاماً بأن السُنّة طائفة ذات احتياجات الخاصة، وأنهم غير جاهزين بعد لتقبّل حرية غير مشروطة، وكونهم "غير جاهزين بعد" قولٌ عمره مئة عام، ارتبط في بدايتها بالسؤال عما جعل الغرب يتقدم بينما تأخر المسلمون، ولم يغب نهائياً هذا الربط الذي يجعل من قضية الحريات بضاعة تنافسية أكثر مما هي ضرورة محلية.
واستحضارنا مثال بلوشستان لا يرمي إلى تعزيز تلك الصورة النمطية عن السُنة، بل نرمي إلى مساءلة بديهية أن يكون الإقليم محافظاً اجتماعياً بسبب سُنّيته، وأن تتناقل وكالات الأنباء والصحف هذا التفسير بلا اعتراض عليه، بينما تثور حساسيات دينية أو مذهبية إزاء ما هو أدنى بكثير من هذا التفسير المهين، أكان صحيحاً أو افتراءً. بالطبع لا نرمي أيضاً إلى أي مغزى سلبي باستخدام تعبير "احتياجات خاصة"، وهو يحظى بكامل تعاطفنا في الحقل الفردي، لكن الحال مختلف تماماً عندما يوضع على الضد مما نراه نزوعاً بشرياً أصيلاً إلى الحرية.