رسالة من سوري إلى فلسطيني
أما بعد...
اسمحْ لي بمخاطبتك كشقيق، لا كشقيق أيديولوجي في قومية أو دين، بل بموجب القرابة التي تجمع الضحايا، وبموجب القرابة التي تجمع جلاديهم في حالتنا. قد نتبادل المواقع أحياناً، فأنت أكبر مني باثنين وعشرين عاماً بمقياس الاحتلاليْن إذا اعتمدنا انقلاب الأسد، وأكبر مني بخمسة عشر عاماً إذا اعتمدنا للتأريخ انقلابَ البعث. نظرياً، أنا أكبر منك بذلك "الاستقلال" الشكلي القريب من عمر احتلال فلسطين، ولعلك منذ اتفاقيات أوسلو صرت تعرف معنى أن يكون الاستقلال شكلياً، وأن تكون السلطة "وطنيةً"!
ربما في أثناء هذه السطور ستقول لنفسك: كان يمكن تأجيل هذه الرسالة إلى وقت لاحق، تكون الظروف فيه أهدأ وأنسب. لكن، كما تعلم، في ذلك الوقت اللاحق سيكون الجميع قد ملّوا من سيرة فلسطين والفلسطينيين، ويريدون الانصراف إلى شؤونهم كما اعتادوا، بما في ذلك تزجية أوقات الفراغ بطريقة أخرى، وبمن فيهم أنت وأنا، أنت الذي تكون قد مللت الكلام وعاينت أثره، وأنا الذي سيخجل من إضافة كلام فات وقته، إذا كان له سابقاً من مبرر.
لا أقصد بالعبارة السابقة القول أن ما تراه الآن من تعاطف حارٍ مزيّف، ففي ظني أنه حقيقي بنسبة معتبرة منه. وهو حقيقي بقدر ما هو عابر أو مؤقت، فبعد قليل ينكفئ أصحابه وقد رأوه عاجزاً عن إيقاف آلة القتل الإسرائيلية، وما كان صادماً في البداية سيصبح اعتيادياً مع استمراره. ربما تكون قد تابعت العالم يعبّر عن صدمته عندما كان بشار يقتل عدداً قليلاً من السوريين يومياً، ثم صمت العالم بينما كانت أعداد القتلى ترتفع، وبينما كان الخبر السوري يتراجع في نشرات الأخبار. لنقل أن هذا من طبيعة الأمور، ولنقبلْ به كما هو مؤقتاً.
ثمة تنويه آخر: لا أود حشر معاناة السوريين إلى جانب معاناتك الآن، إلا بقدر ما تسعفني كي أوضح لك أنني أقدّر ما أنت فيه. فإذا كنتَ في غزة، أعرف جيداً ما يعنيه البقاء تحت القصف لمدة أسبوع، أعرف جيداً تكتيك الغارات المستمرة، الحقيقية والوهمية، وبفارق زمني محسوب بين الطائرات والصواريخ غايته إبقاء أعصابك مشدودة طوال الوقت. هناك ما هو مدروس جيداً وتطبقه القوات الإسرائيلية "كما كانت تفعل قوات الأسد"، فأنت ممنوع من الاسترخاء وممنوع من رفاهية النوم، وعليك البقاء لحظة بلحظة مع تلك القذائف والصواريخ التي لم يسقط أحدها عليك بعد.
تحت القصف، من حسن حظك ألا تكون متزوجاً ولديك طفل، فأنت في غنى عن الرعب الذي ستراه في عينيه، وفي غنى عن التعاطف الشخصي الذي قد تناله فيما لو قُتل وبقيت حياً. على أية حال، إذا نجوتَ فسيكون هناك من يتغنّى بصمودك، نيابة عنك ومن دون سؤالك عن رأيك، وقد ترى في ذلك لطفاً وتعويضاً عن مآسي الليالي المعتمة تحت القصف. ربما تكون قد عبرت البرزخ اللاإنساني من قبل، في هجوم إسرائيلي سابق، وعشت الترجمة التفصيلية لقطع الكهرباء والماء والاتصالات والأنترنت، وتبعاته لحظة بلحظة، بما يجعل النجاة "بطولة" لا يتمنى صاحبها تكرارها.
لكن هذه المعركة ستتوقف كما في كل مرة، من دون وعد بألا تُستأنف عند الحاجة. وإذا بقيتَ حياً كما آمل فسوف تشهد تلك الجدالات التي تعقب المعارك عادة، الذين يتقاسمون أهازيج المقاومة سينقسمون، منهم مَن سيتغنى بالنصر مشيحاً عن الخسائر الباهظة، ومنهم مَن سيتبرأ من المعركة محمَّلاً الطرف الأول خسائرها. سيعود أيضاً ذلك الجدال والاختلاف حول النضال السلمي والعسكري، ولا تُستبعد عودته بذاته تماماً، وبطريقة تدفعك حتماً إلى الكفر بأحدهما، وتدفعنا جميعاً إلى الكفر بالاثنين إذا لا بد منهما على هذه الشاكلة.
اسمحْ لي بهذا التشاؤم؛ ستنتصر إسرائيل في الجولة الحالية بقدرتها على التدمير، وبعدم استعدادها لتقديم تنازلات. علينا ألا ننسى كونها محمية بحلف واسع جداً، الجديد الظاهر فيه آخرُ المطبِّعين معها، ببذاءتهم وابتذالهم اللذين يذكّران بالصورة الشائعة عن محدثي النعمة. أما الممانعون فهم، كما تعلم، ينظرون إلى إسرائيل كقضية وجود، بمعنى أنهم باقون ما بقيت، ومهما بلغوا من السفاهة يبقى قائماً حرصُهم على عدم التفريط في هذا "العدو" الحميم. انظرْ جيداً إلى رهط المنتفعين من وجود إسرائيل، سترى معي "بعد ظهور فوائدها لهم" أنها لو لم توجد لاخترعوها.
لا تصدَّق مواقف الحكومات الأوروبية "المتقدمة تجاهك" في مجلس الأمن أو في بياناتها الإعلامية المنمقة، ففي العقل السياسي السائد أوروبياً ما يزال مقيماً ذلك الغيتو الملازم لعقدة الذنب تجاه اليهود من دون تغيير في أساسه، إنه يعمل هكذا: نضعك في الغيتو عندما نضطهدك، ثم نضعك في الغيتو الأكبر المسمى دولة يهودية بزعم حمايتك. تستطيع في العديد من المدن الأوروبية رؤية عساكر مدججين بالسلاح يحرسون منشآت يهودية، مدارس أو حضانات أو كنس أو أبنية سكنية، بذريعة التصدي للإرهاب وفي تمييز يُراد فهمه إيجابياً لكنه في العمق توريث للغيتو؛ لك أن تتخيل ذلك الطفل اليهودي الذي يعي العالم من وراء بندقية أو رشاش. هي آلة التوريث نفسها تشتغل بسعي اليمين الإسرائيلي إلى محاصرة الفلسطينيين في معازل ضمن أراضي1948، وإلى مسخ حل الدولتين بالغيتو الإسرائيلي الأكبر، وإلى جواره مجموعة متناثرة من الغيتوهات الفلسطينية الصغيرة. مع الإرث المستمر للغيتو، لا داعي لاستيراد تعبير نظام الفصل العنصري. تعلم أفضل مني أن ما يهم قوى عديدة في حل الدولتين تشريعه الكلام عن طرفين، فلا قوة احتلال ولا ضحية وجلاد. ما يهم هي المفاوضات، ولتستمر إلى ما لا نهاية، وليفرض فيها الأقوى مشيئته.
رغم كل ما سبق، ثمة أمل حقيقي، أمل لك ولاحقاً لفلسطيني القرن الحالي من السوريين. لندعْ جانباً تلك الشعارات عن بطولات المقهورين التي تهزم أعتى القوى بقوة الحق، ولندعْ جانباً تلك الشعارات التي تنادي بانتصار "تفاؤل الإرادة" على "تشاؤم العقل". خارج العنتريات يميناً ويساراً، يثبت التعاطف الحالي مع القضية الفلسطينية أن تراكم المقاومة لا يذهب سدى، وربما كان أهم ما فيه مجيئه غير محمول بالضرورة على أيديولوجيا ما، فالتعاطف الأوروبي والغربي عموماً يأتي من أجيال لم تمارس أو تشهد العنصرية أو المحرقة إزاء اليهود ولا تدين لإسرائيل بعقدة ذنب، والتعاطف العربي لم يأت فقط كما كان تقليدياً محمولاً على أيديولوجيا قومية أو إسلامية، بل أتى أيضاً من وعي مفارق لهما. ثمة أمل من عودة القضية الفلسطينية في فلسطين أولاً، ومن تقدمها لدى الرأي العام خارجاً؛ هذه مساحة لتفاؤل العقل تستحق ألا تُهدَر بسواد الإرادات وفسادها.