مآزق مقاول منشق
"مش هتقدر تغلّطني لإني كبرت جوّاك"... بهذه العبارة المتحدية، ارتكز محمد علي - رجل الأعمال الذي وجّه، بعد هربه إلى إسبانيا، أخطر الاتهامات إلى أعلى مستويات الدولة المصرية، باستغلال وإهدار المال العام - على حقيقة أن "الموافقة الأمنية"، وهي كلمة السر في التعاطي مع الدولة في أي مستوى، سوف تحمي مصداقيته من لائحة الاتهامات المعتادة التي سرعان ما تنطلق في مثل هذه الظروف، لتتهم "المعارض" بأنه إخواني/خائن/عميل.
هذه المرة لا، كل اتهام من هذا القبيل كان ليدين أولاً - قبل رجل المقاولات - الأجهزة التي سمحت له بالتعامل مع مشروعات حساسة لأكثر من 15 عاماً، من دون أن يتمتع بأي تاريخ سابق في عالم الأعمال. نشأ من الصفر، أو تحت الصفر كما يصف نفسه، و"حقق الملايين من التعامل مع الجيش" (كما قال والده في برنامج استضافه ليردّ على "خيانة ابنه"). ومن ثم، فإنه لا تفسير لمنحه هذه الفرص ليصبح ثرياً في غمضة عين بمعايير البيزنس، سوى الرضا التام عنه أو عن "ملفه". في ما بعد، يكشف عليّ، في أحد "فيديوهاته" التي أخذ يبثها تباعاً، صلة قرابة/نسب تربطه، من مسافة غير بعيدة، بعائلة الرئاسة. الأمر الذي اقترح تفسيراً غير مباشر لحصوله على تلك "الفرص" للغِنى، في بلد يعاني معظم سكانه أمرّ الظروف الاقتصادية.
لقد صار ثرياً لأنه كان من "أهل الثقة"، الذين يقوم عليهم بنيان أي منظومة لاديموقراطية. ومن ثم فإن إدانته، والتشكيك في "مشروعاته" وطرق الحصول عليها، تشكيك في المنظومة نفسها. ذلك هو المأزق الرئيسي الذي جعل من تلك المنظومة أشبه بملاكم مكتوف اليدين، ظل يتلقى الضربات يوماً بعد آخر، بمقطع فيديو تلو آخر، من دون أن يستطيع رد ضربة واحدة، وخلال فترة زمنية يعكس طولها طبيعة المأزق التالي: مأزق الإعلام.
في زمن "التريند"، حيث لا يستطيع أقوى الأحداث تأثيراً، السيطرة على ذهن المتلقي أكثر من ثلاثة أو أربعة أيام، سيطرت "فيديوهات محمد علي" تماماً على اهتمامات الرأي العام المصري لمدة قاربت الأسبوعين حتى الآن، ولم تهتزّ سيطرتها مهما وقع من أحداث، كالوفاة المفاجئ للنجل الأصغر للرئيس الأسبق الراحل محمد مرسي، أو حتى العودة الغريبة لـ"أيقونة ثورة يناير"، وائل غنيم، بعد صمت دام ست سنوات، وبصورة أقل ما يقال عنها إنها مضطربة شكلاً وموضوعاً، إلا أن محمد علي واصل سيطرته على "التريند" من دون انقطاع تقريباً، وليس لدى "أهل فايسبوك" فحسب، بل لدى "رجل الشارع" أيضاً، أي المستهدف الكلاسيكي من إعلام الدولة الذي خسر "المعركة" أمام "المقاول" بصورة لا مثيل لها، حتى أنها وُصِفت بالنكسة. هكذا، ومن دون أن يقصد محمد علي، أثبت بالبرهان، هدراً آخر لا يقل ضراوة، للمال العام الذي أنفق بالمليارات على مؤسسات إعلامية عملاقة، بالملكية والاستحواذ، لتخسر في النهاية، وبمهانة، أمام "رجل لا يملك سوى غرفة وكاميرا موبايل".
وفي أجواء الانفعال تلك، أجواء الحماسة والغضب التي أثارها الحجر الذي ألقاه "المقاول المنشق" في بركة الاستقرار، كانت نقاشات، وانقسامات أخرى، بين المعنيين بالتحول الديموقراطي، ثوريًا كان أو إصلاحيا، سببها طبيعة ذلك "البطل الشعبي" الذي ظهر على حين غرة. أهذا هو نمط "المعارض" الجديد الذي أفرزته مصر بعد ثماني سنوات من ثورة "الخبز والحرية"؟ رجل مقاولات "فاسد" يلعب بالملايين فـ"جعلناه بطلاً" لأنه "يفضح النظام"؟ "مناضل" يتكلم لغة "شوارعية"، بدلاً من لغة الأدب وقصائد أحمد فؤاد نجم وأمل دنقل. يتحدث بلا خجل، عن سيارته الفيراري والفيللا التي اشتراها في إسبانيا، بدلاً من صحن الفول أو"النوم على لحم البطن"؟
أسئلة عكست مأزق مثقفين بالقدر نفسه الذي عكست فيه مأزق حقبة زمنية تحولت فيها "حروب الوطن" إلى أعمال مقاولات وإنشاء طرق وجسور وفنادق. مأزق عّبر عنه باحث الشؤون السياسية، عمرو عبد الرحمن، إذ كتب "سمعنا عن جنرالات منشقين ووزراء منشقين ودبلوماسيين منشقين... أما الوضع الحالي فلا يليق به إلا مقاول منشق فعلاً!".
غير أن المأزق الأخطر ربما، يعانيه محمد علي نفسه. فهو يعلم أن "التريند" سينتهي عاجلاً أم آجلاً، وأن "الانتقام" قد يتأخر لكن لا مناص منه. مأزق عبّر هو عنه في عبارته التي سرعان ما صارت "ميم" في الانترنت: "صباح الخير.. زي ما انتو شايفين أنا لسة عايش".