الموت قفزاً
كان لافتا أن تصريحات أسرة الشاب محمد عيد، الذي عرف في مصر باسم "شهيد التذكرة"، ظلت تحاول نفي "الفقر" عن ابنها المغدور.
في تصريحاته الصحافية، ركّز شقيق الشاب القتيل، على أن أخاه "لم يكن بائعاً متجولاً"، أو أنه على الأقل "لم يكن يمارس البيع داخل القطار"، بل كان في إجازة في الإسكندرية مع صديقه، ثم نفدت نقوده، "كما قد يحدث مع أي شاب" يقول الشقيق المفجوع، مؤكداً أن الأسرة طالبت ابنها بالعودة مع تحملها التكاليف حين يصل، ووصلت تلك التكاليف في أحد التصريحات إلى حد نصحه باستخدام خدمة "أوبر" من الإسكندرية إلى القاهرة، ما يعني مبلغاً باهظاً ولا شك.
لكن الشاب (23 عاماً) فضّل أن يستقل القطار مع صديقه، ووقف بين العربات، محاولاً إقناع رئيس القطار أو "الكمسري" بأنه سيدفع له في القاهرة، لكن "الرئيس" رفض، وفتح له باب القطار في لحظة هدأت فيها السرعة وخيّره بين "الدفع أو القفز". "لم يكن محمد معتاداً على ركوب القطار"، يقول الأخ، "إذ لم يركبه من قبل سوى 4 مرات". قفز صديقه فأصيب ببعض الكدمات، أما محمد، فنزل على ركبتيه أولاً ثم قفز، فسقط تحت عجلات القطار، و"انفصلت رأسه انفصالاً تاماً عن الجثمان"، كما قال تقرير الطب الشرعي.
وحتى لو كان محمد قد استقل القطار من قبل 40 مرة، أو 400 مرة أو 4000 مرة، فلا ينبغي أن تكون لديه "خبرة" بالقفز، لا ينبغي أن يكون القفز خياراً، على أي نحو وتحت أية ظروف. لكن رئيس القطار، وهو صاحب أكبر خبرة ممكنة في السكك الحديد وضحاياها السابقين والمحتملين، فتح باب القطار (كيف يمكن –من الأصل- أن ينفتح الباب أثناء سير القطار؟ يتساءل مندهشون)، بعد توجيه كل الإهانات الممكنة إلى الشابين المفلسين اللذين قفزا إلى مصيرهما الدموي.
لو كانا أكبر في السن قليلاً، لربما امتلكا حكمة تجنب خيار يكمن فيه الموت مهما كان الثمن. لكن ربما أيضاً، لو كان خيار تسليمهما إلى الشرطة، أقل رهبة، لما قفزا. "الكمسري خيّرنا بين الدفع، أو القفز، أو تسليمنا إلى الشرطة حين نصل المحطة المقبلة"، يقول صديق القتيل الذي "نجا" ببعض الكدمات، ولم ينج من رؤية "صديق عمره" يفقد رأسه تحت القطار. "قفزنا.. رهبةً من تسليمنا إلى الشرطة أو حبسنا"، يضيف الصديق في تصريحات صحافية.ربما قفزا أيضاً لأنهما لم يستطيعا أن يتحملا إهانات الكمسري أكثر من ذلك. ويعيدنا هذا إلى موقف الأسرة التي أصرت في معظم تصريحاتها، على أن يبدو ابنها في مظهر الشاب الذي أنفق كل نقوده تهوراً "زي بقية الشباب"، لا في مظهر الفقير الذي لا يستطيع تحمل ثمن التذكرة. بدا أن الأسرة لا تريد أن تتحمل، فوق فاجعتها الأصلية، إهانة إضافية و"اتهاماً" بالفقر. يوضح ذلك، رفضها الأوليّ على الأقل، طبقا لمصادر صحافية، قبول التعويض العاجل (100 ألف جنيه) الذي صرفته الدولة لعائلة القتيل.
مبلغ المئة ألف، الكبير بالمعايير الاقتصادية المصرية، أضيفت إليه، كلفة عزاء فخم أقامته وزارة النقل في الحيّ الذي تقطنه أسرة القتيل. الوزير حضر شخصياً، كما ظهر في صور وبيان مجلس الوزراء، وعزّى في القتيل وقبّل رأس شقيقه وقدم الاعتذار. ولم يسع متابعون إلا أن يلاحظوا المفارقة، فهذه المبالغ الكبيرة التي تحملتها الخزينة العامة، أُنفقت للاعتذار عن جريمة وقعت من أجل مبلغ زهيد، "70 جنيهاً" فحسب، ثمن تذكرة أصر سائق القطار على تقاضيها من الشاب المسكين. إصرار –كما اتضح – بلغ حد الموت.
تُجري النيابة تحقيقاتها مع رئيس القطار المحبوس على ذمة القضية، وترددت أنباء متضاربة عن طبيعة التهمة التي يمكن أن توجه إليه. هل هي القتل العمد؟ هل هي - كما قيل - القتل بالترويع؟ هل ثمة توصيف في القانون المصري لمثل تلك الحالة: إخافة الضحية إلى حد أن تقفز بنفسها إلى الموت؟ هل يمكن محاكمة الرعب؟ وإن لم يكن ذلك ممكناً، فكم قتيلاً سيسقط بعد؟