فُرص "الممر" الضائعة
بتأثير من آلام الضرب المبرّح، يقول الضابط الإسرائيلي (يؤدي دوره الأردني إياد نصار) لغريمه المصري: "اقتلني". لكن الضابط المصري نور (أحمد عز) يرفض العرض: "لو قتلتك يبقى باريّحك، اللي يتعبك إني آخدك معايا (مصر)".
كان المفترض أن يشير رد الضابط المصري إلى أن الإذلال الحقيقي للضابط الإسرائيلي لا يتأتى بقتله في ساحة المعركة، بل بأخذه أسيراً عبر قناة السويس إلى القاهرة، لكن صياغة الجملة على هذا النحو الهشّ في فيلم "الممر": "لو قتلتك أريحك، أنا هاخدك مصر" جعلها كوميدية تقريباً، فقد بدت كأنها إشارة تسخر من الحياة في مصر التي –وفقاً لتلك الصياغة – أصبحت عقاباً أسوأ من القتل، وبالفعل، سرعان ما تلقفت صفحات الكوميكس ذلك المشهد وبالغت فيه وقدمت على شاكلته تنويعات عديدة، وذلك منذ بدأ عرض الفيلم على النطاق الأوسع في عدد من المحطات التلفزيونية المصرية احتفالاً بالذكرى السادسة والأربعين لانتصارات حرب أكتوبر، بعد نحو شهرين من بدء عرضه في السينما.
ربما يعود سر هشاشة الحوار إلى الاختيار الغامض للشاعر الغنائي أمير طعيمة ليقوم بالكتابة. وطعيمة من أبرز-أو لنقل من أشهر- الشعراء الغنائيين المصريين، كتب لعمرو دياب وتامر حسني وشيرين عبد الوهاب وأنغام، بل حتى لوردة الجزائرية ورجاء بلمليح قبل رحيلهما. هو غزير الإنتاج، لكن إنتاجه ذاك، رغم شهرته، نادراً ما شكّل أفضل أعمال من كتب لهم أو لهن. أما كتابته لسيناريو وحوار "الممر"، بالاشتراك مع المخرج شريف عرفة، فهي التجربة الأولى له على الإطلاق، وهو اختيار إنتاجي غريب ومغامر لفيلم كلفته 100 مليون جنيه مصري. ومع ذلك لا سرَّ خاصاً في اختيار طعيمة، فبعدما كتب أغنيات فيلم "الكنز" للمخرج نفسه، فوجئ باتصال جديد من عرفة، توقع أنه سيطلب منه قصائد للفيلم الجديد، لكن الطلب كان المشاركة في الكتابة. والنتيجة المؤسفة لم تكن فقط الجُمل الحوارية الهشة التي تصلح للسخرية مثل العبارة أعلاه، لكن الأسف الأكبر هو غياب أي تأثير لـ"الشاعر" في حوار الفيلم. غياب العبارة المبتكرة، أو التشبيه البليغ، أو حتى الحوار الرقيق. على العكس، حفلت حوارات الشخصيات بالكليشيهات والتشبيهات المكرورة، مع الكثير من "يا رجالة" و"الماتش لسة ما خلصش".
غير أن عدم اختيار كاتب سيناريو محترف لفيلم وطني بهذا الحجم، لم يكن سوى إحدى الفرص الضائعة العديدة في فيلم "الممر". فقد خاضت مصر خمس حروب كبرى ضد إسرائيل، خلال 25 عاماً بين 1948 و1973 (النكبة، العدوان الثلاثي، النكسة، الاستنزاف ثم حرب أكتوبر)، ما يعني أن ثمة آلاف القصص لبطولات حقيقية تنتظر من يرويها على الشاشة. قصص ذات تفاصيل غنية - لأنها بنت الواقع- تحفل بها كتب الحرب ومذكرات المحاربين. وبدلاً من اختيار إحداها، استغلالاً لفرصة توافر إنتاج ضخم كما هي الحال في "الممر"، فضّل صنّاع الفيلم "اختراع" قصة خيالية عن تحرير أسرى مصريين من داخل معسكر إسرائيلي في سيناء، خلال حرب الاستنزاف (علماً أن الإسرائيليين لم يحتفظوا أبداً بأسرى مصريين داخل سيناء نفسها، بل تخلصوا من بعضهم بالقتل، ونقلوا الآخرين إلى داخل إسرائيل). بالطبع، لا يُشترط لإنتاج فيلم عن حرب حقيقية، أن تكون القصة المتناولة حقيقية بدورها، وإنما يمكن الرجوع مثلاً إلى الأعمال الأدبية التي أُنتجت حول الحرب أو الصراع برمته.
ثمة نموذجان مصريان سابقان بارزان، بين عديد النماذج، في ما خص الصراع مع إسرائيل: فيلم" أغنية على الممر"، عن مسرحية بالعنوان ذاته لعلي سالم، وفيلم "حكايات الغريب"، عن قصة قصيرة لجمال الغيطاني، والأخيرة قصة متخيّلة عن الحرب مع إسرائيل رغم أن الغيطاني كان -في الحقيقة- مراسلاً حربياً على الجبهة بين العامين 1968 و1974. لكنه، كأديب كبير عرف كيف يكون العمل خيالياً وواقعياً في الوقت ذاته، وهو ما ترجمه كاتب السيناريو البارز محمد حلمي هلال، في تحويل القصة إلى الفيلم الذي أخرجته أنعام محمد علي (وهي مخرجة "الطريق إلى إيلات" أيضاً) العام 1992.
هكذا، لم يستفد "الممر"، لا من الغيطاني الأديب، ولا الغيطاني المراسل الحربي، ولا ممن كتبوا قصص الأسرى المصريين لدى إسرائيل، وأبرزهم فؤاد حجازي وكتابه "الأسرى يقيمون المتاريس". بدلاً من ذلك، يدفع السيناريو المهزوز، بشخصية الصحافي "إحسان" (أحمد رزق في دور المراسل الحربي)، في صورة أبعد ما تكون عن طبيعة تلك المهنة. فهو جبان يخاف من ظله، غير لائق بدنياً، محل سخرية دائمة من الجنود، كما أن تاريخه المهني يقتصر على تغطية أخبار الملاهي الليلية! ليس هذا خطأ يتعلق فحسب بطبيعة مهنة المراسل الحربي أو طريقة اختياره، بل الوقوع كذلك في فخ شعبوية تكاد تلامس وعي التطرف الديني. فالـ"الفساد" الذي أراد الصحافي أن يتطهر منه عبر المشاركة في المهمة الوطنية، ليس إلا تغطيته السابقة لأخبار راقصتين في الملهى. في الواقع، يرسم السيناريو الصورة الدينية حرفياً، فبعد حادث سيارة يتعرض له الصحافي في المرحلة "الفاسدة"، يفقد الوعي ويقترب من الموت، فيرى أثناء غيبوبته الراقصتين وهما تجذبانه إليهما وقد اشتعلت في أيديهما النار!
بكلفة إنتاجه الضخم غير المسبوق في السينما المصرية، والدعم الكبير من الدولة، وتاريخ الجمهور المصري في إنجاح الأعمال الوطنية، كان يمكن لـ"الممرّ" أن يحقق أفضل من احتلال المركز الرابع في قائمة أعلى الأفلام دخلاً في السينما المصرية. فرغم تقدم مركزه في الإيرادات، إلا أنها لا تزال أقل من كلفة إنتاجه بحوالى الرّبع، ويعني ذلك أنه قد خسر عملياً في الصالات، 25 مليون جنيه مصري، وهو مبلغ يكفي لإنتاج فيلم بأكمله، فيلم لا يهدر فرصة أن يعلن عن نفسه بالعبارة السحرية "مقتبس عن قصة حقيقية".
كان المفترض أن يشير رد الضابط المصري إلى أن الإذلال الحقيقي للضابط الإسرائيلي لا يتأتى بقتله في ساحة المعركة، بل بأخذه أسيراً عبر قناة السويس إلى القاهرة، لكن صياغة الجملة على هذا النحو الهشّ في فيلم "الممر": "لو قتلتك أريحك، أنا هاخدك مصر" جعلها كوميدية تقريباً، فقد بدت كأنها إشارة تسخر من الحياة في مصر التي –وفقاً لتلك الصياغة – أصبحت عقاباً أسوأ من القتل، وبالفعل، سرعان ما تلقفت صفحات الكوميكس ذلك المشهد وبالغت فيه وقدمت على شاكلته تنويعات عديدة، وذلك منذ بدأ عرض الفيلم على النطاق الأوسع في عدد من المحطات التلفزيونية المصرية احتفالاً بالذكرى السادسة والأربعين لانتصارات حرب أكتوبر، بعد نحو شهرين من بدء عرضه في السينما.
ربما يعود سر هشاشة الحوار إلى الاختيار الغامض للشاعر الغنائي أمير طعيمة ليقوم بالكتابة. وطعيمة من أبرز-أو لنقل من أشهر- الشعراء الغنائيين المصريين، كتب لعمرو دياب وتامر حسني وشيرين عبد الوهاب وأنغام، بل حتى لوردة الجزائرية ورجاء بلمليح قبل رحيلهما. هو غزير الإنتاج، لكن إنتاجه ذاك، رغم شهرته، نادراً ما شكّل أفضل أعمال من كتب لهم أو لهن. أما كتابته لسيناريو وحوار "الممر"، بالاشتراك مع المخرج شريف عرفة، فهي التجربة الأولى له على الإطلاق، وهو اختيار إنتاجي غريب ومغامر لفيلم كلفته 100 مليون جنيه مصري. ومع ذلك لا سرَّ خاصاً في اختيار طعيمة، فبعدما كتب أغنيات فيلم "الكنز" للمخرج نفسه، فوجئ باتصال جديد من عرفة، توقع أنه سيطلب منه قصائد للفيلم الجديد، لكن الطلب كان المشاركة في الكتابة. والنتيجة المؤسفة لم تكن فقط الجُمل الحوارية الهشة التي تصلح للسخرية مثل العبارة أعلاه، لكن الأسف الأكبر هو غياب أي تأثير لـ"الشاعر" في حوار الفيلم. غياب العبارة المبتكرة، أو التشبيه البليغ، أو حتى الحوار الرقيق. على العكس، حفلت حوارات الشخصيات بالكليشيهات والتشبيهات المكرورة، مع الكثير من "يا رجالة" و"الماتش لسة ما خلصش".
غير أن عدم اختيار كاتب سيناريو محترف لفيلم وطني بهذا الحجم، لم يكن سوى إحدى الفرص الضائعة العديدة في فيلم "الممر". فقد خاضت مصر خمس حروب كبرى ضد إسرائيل، خلال 25 عاماً بين 1948 و1973 (النكبة، العدوان الثلاثي، النكسة، الاستنزاف ثم حرب أكتوبر)، ما يعني أن ثمة آلاف القصص لبطولات حقيقية تنتظر من يرويها على الشاشة. قصص ذات تفاصيل غنية - لأنها بنت الواقع- تحفل بها كتب الحرب ومذكرات المحاربين. وبدلاً من اختيار إحداها، استغلالاً لفرصة توافر إنتاج ضخم كما هي الحال في "الممر"، فضّل صنّاع الفيلم "اختراع" قصة خيالية عن تحرير أسرى مصريين من داخل معسكر إسرائيلي في سيناء، خلال حرب الاستنزاف (علماً أن الإسرائيليين لم يحتفظوا أبداً بأسرى مصريين داخل سيناء نفسها، بل تخلصوا من بعضهم بالقتل، ونقلوا الآخرين إلى داخل إسرائيل). بالطبع، لا يُشترط لإنتاج فيلم عن حرب حقيقية، أن تكون القصة المتناولة حقيقية بدورها، وإنما يمكن الرجوع مثلاً إلى الأعمال الأدبية التي أُنتجت حول الحرب أو الصراع برمته.
ثمة نموذجان مصريان سابقان بارزان، بين عديد النماذج، في ما خص الصراع مع إسرائيل: فيلم" أغنية على الممر"، عن مسرحية بالعنوان ذاته لعلي سالم، وفيلم "حكايات الغريب"، عن قصة قصيرة لجمال الغيطاني، والأخيرة قصة متخيّلة عن الحرب مع إسرائيل رغم أن الغيطاني كان -في الحقيقة- مراسلاً حربياً على الجبهة بين العامين 1968 و1974. لكنه، كأديب كبير عرف كيف يكون العمل خيالياً وواقعياً في الوقت ذاته، وهو ما ترجمه كاتب السيناريو البارز محمد حلمي هلال، في تحويل القصة إلى الفيلم الذي أخرجته أنعام محمد علي (وهي مخرجة "الطريق إلى إيلات" أيضاً) العام 1992.
هكذا، لم يستفد "الممر"، لا من الغيطاني الأديب، ولا الغيطاني المراسل الحربي، ولا ممن كتبوا قصص الأسرى المصريين لدى إسرائيل، وأبرزهم فؤاد حجازي وكتابه "الأسرى يقيمون المتاريس". بدلاً من ذلك، يدفع السيناريو المهزوز، بشخصية الصحافي "إحسان" (أحمد رزق في دور المراسل الحربي)، في صورة أبعد ما تكون عن طبيعة تلك المهنة. فهو جبان يخاف من ظله، غير لائق بدنياً، محل سخرية دائمة من الجنود، كما أن تاريخه المهني يقتصر على تغطية أخبار الملاهي الليلية! ليس هذا خطأ يتعلق فحسب بطبيعة مهنة المراسل الحربي أو طريقة اختياره، بل الوقوع كذلك في فخ شعبوية تكاد تلامس وعي التطرف الديني. فالـ"الفساد" الذي أراد الصحافي أن يتطهر منه عبر المشاركة في المهمة الوطنية، ليس إلا تغطيته السابقة لأخبار راقصتين في الملهى. في الواقع، يرسم السيناريو الصورة الدينية حرفياً، فبعد حادث سيارة يتعرض له الصحافي في المرحلة "الفاسدة"، يفقد الوعي ويقترب من الموت، فيرى أثناء غيبوبته الراقصتين وهما تجذبانه إليهما وقد اشتعلت في أيديهما النار!
بكلفة إنتاجه الضخم غير المسبوق في السينما المصرية، والدعم الكبير من الدولة، وتاريخ الجمهور المصري في إنجاح الأعمال الوطنية، كان يمكن لـ"الممرّ" أن يحقق أفضل من احتلال المركز الرابع في قائمة أعلى الأفلام دخلاً في السينما المصرية. فرغم تقدم مركزه في الإيرادات، إلا أنها لا تزال أقل من كلفة إنتاجه بحوالى الرّبع، ويعني ذلك أنه قد خسر عملياً في الصالات، 25 مليون جنيه مصري، وهو مبلغ يكفي لإنتاج فيلم بأكمله، فيلم لا يهدر فرصة أن يعلن عن نفسه بالعبارة السحرية "مقتبس عن قصة حقيقية".