عندما يهزأ بومبيو بنا
الاعتقاد بأن الرئيس الاميركي دونالد ترامب هو المختل الوحيد في واشنطن، غير دقيق كما يبدو. فوزير خارجيته مايك بومبيو، قدم في خطابه الاخير في الجامعة الاميركية في القاهرة الخميس الماضي، دليلاً قوياً يدحض هذا الفكرة، ويفرض إعادة التدقيق في المستوى العقلي لمختلف المسؤولين في الادارة الاميركية الحالية، وليس فقط رئيسها.
يمكن لأي قراءة عفوية للخطاب أن تصنفه كواحد من أخطر النصوص المفصلية للسياسة الخارجية الاميركية الراهنة، وأكثرها دقة في رسم الخطوط العريضة للحملة الضارية التي تنفذها إدارة ترامب ضد إيران، لكن هذا التقدير يجافي النص وجوهره الذي يكاد يهزأ بالقارىء، العربي تحديداً، ويأخذه على حين غزة، الى مقارنات ظالمة مع خطابات أميركية جدية فعلاً ألقيت في المكان نفسه وفي مناسبات سابقة.
غرائب الخطاب ومفارقاته لا تقتصر فقط على كون وزير خارجية أميركا وقف في مكان خارج حدود الولايات المتحدة لكي يهاجم رئيساً أميركياً سابقاً (باراك أوباما) سبق ان صعد الى منبر مصري مشابه، في العام 2009 ، لكي يلقي خطاباً شهيراً، بني على معارف وأفكار ومواقف عميقة، جريئة، تستدعي النقاش، وتستحق أن توصف بأنها آخر النصوص الرسمية الاميركية المحترمة في مقاربة الاسلام ، وفي التعامل مع القضية الفلسطينية.
في حالة رئيس الدبلوماسية الاميركية الحالي، الذي لا يخجل من كونه خريج كلية عسكرية، وليس خريج إحدى كبرى جامعات النخبة المدنية الاميركية الراقية والعريقة، يجد القارىء نفسه أمام خطاب مدرسي من طالب في المرحلة الابتدائية، يرى العالم ودوله وشعوبه وأعراقه وأديانه من منظور الخير والشر، والتحرر والاحتلال، ويوجه، من دون أن يدري، إساءات مباشرة الى مصر كدولة ، والى العرب كأمة، والى الاسلام كعقيدة.. لكي يصل الى مبتغاه ورسالته (السماوية) في تحويل إيران الى مركز لتهديد الأمن والسلم العالميين، ومحور لتصدير الارهاب.
لم يكن الرئيس السابق أوباما واعياً عندما وقع في غرام إيران الشعب والتاريخ والحضارة، التي حطمها رجال الدين الايرانيين أنفسهم، وعندما صرح مراراً وتكراراً أن العرب يبالغون في الخطر الايراني، الذي يسيطر الآن على أربع عواصم عربية، ويهدد ثلاث عواصم أخرى. لكن كلامه يبدو حكيماً بالمقارنة مع خطاب ترامب ووزير خارجيته بومبيو، الذي يكاد يرى في إيران الشيطان الاكبر، الذي يستدعي إعلان حالة الطوارىء العالمية، الشبيهة بتلك التي أعلنت في مواجهة دول وظواهر مثل الفاشية والنازية والشيوعية.
ثمة مجال وسط بين تطرف أوباما وبين جنوح ترامب، الذي يعبىء النفوس ويؤجج المشاعر ويستنفر الجيوش العربية ضد إيران.. ثم ينسحب من سوريا ، ومن العراق ، ومن افغانستان، لأنه إكتشف أخيراً انه ليس من واجب أميركا ان تكون شرطي العالم وحامي أنظمة خليجية لا تقوى على الصمود بضعة اسابيع من دون حماية أميركية، لن يوفرها مخطط تشكيل الناتو العربي العتيد، الذي يطرحه الاميركيون الآن على دول مجلس التعاون الخليجي الست ومصر والاردن، ولا يأخذه أحد على محمل الجد، لا في واشنطن ولا حتى في طهران.
بوجهٍ حاد القسمات، وصوت جهوري متهدج، وبعبارات مباشرة وخاطفة، يعرض بومبيو للعقوبات على إيران وعلى حزب الله، وعلى نجل رئيسه السيد حسن نصرالله، ثم يقول ما حرفيته:" يمكن أن تظن إيران أنها تمتلك لبنان.إيران على خطأ". تفسير هذه الجملة السطحية، يحتاج الى الكثير من التبصر، والكثير من الصبر على ذلك العُتهِ الاميركي، الذي يرجح ان تكون آثاره أسوأ من آثار عصر الغرام الاميركي الايراني السابق.
ليس هناك من ردٌ على فحوى تلك الرسالة الاميركية سوى الرجاء ان توقف أميركا إيفاد المعتوهين.