أكرادنا في متاهتهم
طريفة هي المعركة الرمزية التي يخوضها أكراد سوريا بتداول صورة كردستان العظمى على وسائل التواصل الاجتماعي، رداً على احتجاج تركي لدى غوغل بسبب نشرها وتعارضها مع الحدود الوطنية الحالية. وجه الطرافة يأتي من المفارقة بين حجم الخريطة والواقع الكردي الذي يتردى، بخاصة مع الانسحاب الأمريكي من سوريا، وتأهب أنقرة من جهة والأسد من جهة أخرى للسيطرة على المناطق التي تسيطر عليها ميليشيات وحدات الحماية الكردية.
تداول الخريطة الكردية يذكّرنا بكثرة تداول الخريطة الكاملة لفلسطين في حقبة خلت، وقبلها بالخريطة المزعومة لإسرائيل الكبرى كأرض للميعاد. وكما نعلم انتهت الموجتان، فلا خريطة فلسطين بقي لها ذلك الجمهور باستثناء قلة حالمة، ولا إسرائيل الكبرى موضوعة على البرنامج السياسي لأي حزب إسرائيلي، بل على العكس تختلف الأحزاب الإسرائيلية في ما بينها على حجم الانسحاب المناسب للتخلص من ورطة التوسع الضخم في حرب حزيران 1967.
قد يُقال أن تثبيت خريطة كردستان هو شأن ثقافي في المقام الأول، إلا أن هذا القول يتنافى إطلاقاً مع ما شهدناه أثناء سيطرة الميليشيات الكردية على مناطق عربية في شرق وشمال سوريا. مع تقدم الميليشيات انتشرت دعاوى الحق التاريخي، المتعارضة تماماً مع الواقع السكاني، وعمدت الميليشيات إلى عمليات تهجير واسعة النطاق، وعمدت أيضاً إلى استبدال أسماء عربية أو سريانية لمدن وقرى على النحو الذي كان فعله البعث بتغيير أسماء قرى وبلدات كردية. وفي حين كانت الميليشيات تقدّم خطاباً للغرب بوصفها ذراعاً له في الحرب ضد الإرهاب كان خطابها وممارساتها الداخليين يبنيان على الغرائز القومية، وعلى خريطة كردستان الكبرى، ووصل الأمر بقياديي الميليشيات من جبل قنديل أن روّجوا للأمر كبداية للتحرير سرعان ما سيمتد إلى كردستان تركيا حيث المعركة الفاصلة.
مع الضربة التي تلقتها الميليشيات في معقلها عفرين، والضربة المتوقعة في الشرق والشمال إثر الانسحاب الأمريكي، نرى ذلك الضخ الإعلامي في الإكثار من التأكيد على حقوق جغرافية تاريخية، وفي الإكثار من رفع صور أوجلان الزعيم التاريخي لحزب العمال الكردستاني، التعويض النفسي عن الهزيمة على هذا النحو سيكون مفهوماً بلغة المظلومية، لأن الفارق بين الواقع والحلم "أو الوهم" لا يمكن جسره سوى بإحساس مهول من الظلم. هذا بالطبع لا يصنع قضية بالمعنى السياسي المباشر للكلمة، إذ سيكون من شأن المظلومية أن تتضخم في حركة مغايرة للواقع، وأن تنفصل عنه باضطراد إلى أن تنقلب المأساة إلى مهزلة بالمعنى الفكري. قد نرى مثالاً مشابهاً لدى سوريين آخرين يرون اليوم أن الثورة مستمرة، رغم سحق أية فعالية سياسية سلمية في الداخل، ورغم سحق الفصائل العسكرية وتحويل ما تبقى منها إلى مرتزقة لدى أنقرة في معركتها ضد الأكراد، وأخيراً رغم توزع أطر المعارضة بين ائتلاف في أحضان أنقرة وهيئة تفاوض عاطلة عن العمل في الرياض.
لا نملك اليوم أرقاماً دقيقة عن الواقع الكردي في سوريا، شأنه شأن نظيره العربي، لكننا نملك من المعطيات ما يكفي للدلالة عليه. في منطقة عفرين التي تضم أعلى غالبية كردية نستطيع الجزم بأن نسبة ضخمة جداً من السكان الأكراد قد نزحت بفعل الهجوم التركي، ومن ثم بفعل الانتهاكات اليومية التي تمارسها الفصائل المدعومة من أنقرة. قبل ذلك كان داعش قد احتل كوباني "عين العرب"، وتسبب في نزوح سكانها قبل أن تأتي معركة التحرير لتحوّل المدينة إلى أنقاض غير قابلة للعودة والسكن. لم تشهد المدينة إعادة إعمار بعد طرد داعش، بل دعا قيادي في الميليشيات الكردية إلى الإبقاء عليها كما هي كرمز لفظاعات داعش على نحو ما ترك الأسد مدينة القنيطرة بعد الانسحاب الإسرائيلي أنقاضاً ليُري بعض زائريه الوحشية الإسرائيلية!
ما نعرفه أيضاً أن تدفق الأكراد إلى كردستان العراق لم يتوقف عبر مدينة القامشلي، ليكون الهدف اللاحق الوصول إلى الملاجئ الأوروبية. ورغم العداوة على طرفي الحدود بين الجانبين الكرديين إلا أن الرشاوى تتكفل بعبور اللاجئين، وهؤلاء ليسوا فقط ممن تضرروا من الاجتياح التركي أو من داعش، إنهم أيضاً من معارضين أكراد لا يريدون البقاء تحت سلطة الميليشيات الكردية، وهم أيضاً أناس بسطاء لا يريدون سوق أبنائهم أو بناتهم في حملات التجنيد القسري، أو لا يريدون أن يتطوع القاصرون منهم في تلك الميليشيات تحت تأثير سطوتها ودعايتها الإعلامية، فضلاً عن أناس آخرين أوقعتهم الحرب في البطالة وضيق العيش.
تحرّي الواقع الديموغرافي الحالي يقودنا إلى فجوة واسعة جداً بينه وبين المناطق الشاسعة التي تسيطر عليها الميليشيات الكردية بدعم أمريكي، هي الفجوة بين عسكرة أكبر وأشد وشعب أقل من أي وقت مضى. يجدر بنا هنا عدم التوقف عند أوهام عودة النازحين لاحقاً، وهذا يصحّ على الأكراد بقدر ما يصحّ على العرب، والذين ارتكبوا فظائع التهجير يدركون ذلك أكثر من ضحاياه الذين يقعون ضحية الإنكار، ويدركون من التجارب السابقة أنه كلما طال أمد اللجوء صار نهائياً. المعيار الديموغرافي يخبرنا بأن الأكراد دفعوا ثمناً باهظاً لقاء سيطرة الميليشيات الكردية على مساحات واسعة خارج مناطق فيها غالبية كردية، ودفعوا ثمناً باهظاً أيضاً لقاء تسلط الميليشيات على الأكراد أنفسهم، قبل الثمن المتوقع في حال رفع الغطاء الأمريكي عن الميليشيات. وإذا كانت من أوهام حول تغيير في القرار الأمريكي، جراء بعض الضغوط الداخلية لا حباً بالميليشيات، فتجربة كردستان العراق الأخيرة مع الاستفتاء على الاستقلال وتبعاته مؤشر على الحدود المسموح بها دولياً.
الثمن الفعلي الذي دفعه الأكراد لا يقل عن الثمن الذي دفعه نظراؤهم العرب في مقلب الثورة، من دون أن نغفل عن الثمن الذي دفعه الطرفان جراء خوضهما حرباً بينية بالوكالة عن قوى خارجية وعن الأسد نفسه. وإذا كانت المناطق العائدة إلى سيطرة الأسد تخضع لتنكيل قواته ومخابراته فإن المناطق الكردية لن تكون أحسن حالاً في الصفقة الكبرى التي يكون فيها الأسد وأنقرة طرفين متفاهمين ضد الأكراد، وهذا ليس منتهى السوء للأكراد وللقضية الديموقراطية في سوريا ككل، إذ قدّمت انتهاكات الميليشيات الكردية وتطلعاتها التوسعية المبرر الكافي لعداء عربي-كردي غير مسبوق، من دون أن ننسى مساهمة نظيراتها العربية في تعزيزه أو التأسيس له.
كانت خريطة كردستان الكبرى من قبل الثورة السورية وما تلاها بمثابة وهْم مجدٍ متخيَّل قياساً إلى الواقع، والآن تبدو أكثر من أي وقت مجرد رسم في الواقع الافتراضي، الواقع الذي يتسع لكافة الأوهام. أكرادنا السوريون عالقون في هذه المتاهة، يستعيرون خريطة عظمى لا يفكّر فيها حقاً أشقاء لهم في أماكن أخرى، وليس مجرداً من الدلالة أن يستعير أكرادنا رموزاً كردية من الخارج، فمرة البارزاني ومرة أوجلان، ليدفعوا ثمن ما لا يمثّل مصالحهم المستمدة من خصوصية وضعهم السوري. الخصوصية السورية ذاتها تضع ملايين العرب السوريين في تيه ومتاهة مشابهين، إلا أننا لا نعدم وسط هذا التيه حروب الخاسرين في ما تبقى من أرض، ولن نفتقدها قريباً مع فقدانهم أرض ميعادهم.