هل قرأ سبيلبرغ رسالة كيسنجر؟
في تشرين الثاني عام 2010، اقتبس الأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصر الله من رسالة لوزير الخارجية الأميركي السابق هنري كيسنجر الى ريمون إده، رداً على كتاب مفتوح وجهه الأخير إلى الأول عبر جريدة النهار عام 1976. لكن لم يمر وقت طويل حتى تبين أن "رسالة كيسنجر" كانت "مُتخيّلة" وكتبها صحافي لبناني هو الزميل سليم نصّار في مجلة "الحوادث"، قبل أن تتناقلها مخيلة المؤامرات العربية منذ ذلك الحين على أنها اعتراف بصحة محتوياتها.
الأسبوع الماضي، خاض الأمين العام للحزب تجربة ثانية من هذه النوعية. شن هجوماً لاذعاً على قرار السلطات اللبنانية عرض فيلم "ذا بوست" للمخرج الأميركي ستيفن سبيلبرغ، ليس لأن المحتوى رديء بل لأن الأخير أيّد الحرب الاسرائيلية على لبنان عام 2006، وتبرع بمليون دولار لإسرائيل.
في الإتهام الأول، أي دعم حرب 2006، ورغم عدم وجود أي مرجعية لهذا التصريح، بالإمكان الافتراض بأن سبيلبرغ أيّد الحرب، ضمناً على الأقل. بيد أن المخرج أبدى في مقابلة مع مجلة "در شبيغل"، وقبل شهور من الحرب، استعداده للموت في سبيل الولايات المتحدة واسرائيل لو اقتضى الأمر ذلك، وأيضاً أكد تأييده "المبدئي" قرار رئيسة الوزراء الاسرائيلية السابقة غولدا مئير شن عمليات تصفية انتقامية ضد فلسطينيين رداً على عملية ميونيخ. لكن الرجل الذي يحسب نفسه على التيار الليبرالي اليهودي في الولايات المتحدة، نقدي أيضاً.
لم يكن فيلم ميونيخ دعاية خالصة للموساد واسرائيل، بل تعرّض سبيلبرغ لموجة انتقادات من بعض مؤيدي اسرائيل صنّفته خائناً للقضية وناكراً لـ"الشر" الفلسطيني وغير ذلك. وأيضاً، رآه الفلسطينيون والعرب منحازاً لإسرائيل إلى حد كبير. رد المخرج الأميركي على هذه الانتقادات بالتشديد على ضرورة طرح الأسئلة، والبحث في جذور الإرهاب والعنف. قال إن هدفه إثارة حوار مختلف بين الطرفين وطرح أسئلة جذرية.
موضع الخطأ في خطاب نصر الله كان في مُبرره الأساسي لمنع الفيلم، عندما صرخ بأن مخرجه "دفع من ماله الشخصي مليون دولار لإسرائيل، لقتل أطفالكم وسحق عظامكم، وتدمير بيوتكم، في الأخير نكافئ ستيفين تحت عنوان الفن والحرية والسياحة، انه لا يوجد مشكلة فلتعرضوا فيلمه في الصالات اللبنانية؟". طبعاً، هذا كلام خاطئ. ستيفن لم يتبرع للجيش الاسرائيلي وللمجهود الحربي.
الحقيقة أن جمعية أسسها سبيلبرغ قدمت بعد حرب تموز عام 2006 تبرعاً بقيمة ربع مليون دولار، لكن ليس للعمل الحربي، بل لدعم الأطفال الاسرائيليين المهجرين في الشمال، وتركيب زجاج مضاد للكسر في 3 مستشفيات في حيفا وتوفير وجبات مجانية للمدنيين وغير ذلك من النشاطات الإغاثية. لم يكن التبرع "لقتل أطفالكم وسحق عظامكم وتدمير بيوتكم". كما أن عمل هذه الجمعية لا يقتصر على دعم الاسرائيليين في زمن الحرب، بل له جوانب أخرى عديدة.
بعد فيلمه الشهير عن المحرقة اليهودية، "ذا شندلرز ليست"، ومن وحي هذا الحدث الجلل في التاريخ البشري، أسّس سبيلبرغ جمعية اسمها "The Righteous Persons Foundation"، وهدفها اضفاء معنى على نشاط المجتمعات اليهودية، وأيضاً "ردم الهوة بين المنتمين إلى خلفيات متعددة".
الجمعية تعتمد على بعض أرباح أفلام سبيلبرغ، وهي في بداية نشاطها وثّقت شهادات ناجين من المحرقة اليهودية، ثم انتقلت الى أعمال ونشاطات مختلفة بينها أخيراً تمويل مسلسل اسمه "الحياة السرية للمسلمين"، وهدفه تبديد الصور النمطية عن المسلمين في الولايات المتحدة.
سبيلبرغ ليس صديقاً للعرب وللفلسطينيين. ولشخصية الرجل جوانب كثيرة بينها ما لا يُعجبنا، لكنه مُخرج مُحترف وموهوب ومُثقف وأعماله جزء مهم من التاريخ الفني العالمي. أما كاتب خطابات نصر الله، أكان مستشاراً أو مشرفاً أو مدققاً، أظهر رداءة ثقافته التي استقاها على الأرجح من كتب المؤامرات الكونية حيث يسود المنع والحظر والخوف من الآخر.