لمن صوت العم جلال في الاستفتاء؟
براغماتية الرجل حتى اللحظة الاخيرة تتركنا امام صعوبة معرفة اذا ما كان العم جلال وهو اللقب المفضل للرئيس الراحل جلال الطالباني قد ادلى بصوته في الاستفتاء الكردي على خطة الانفصال واعلان الدولة الكردية المستقلة في العراق التي ناضل من اجلها لعقود . لكننا نفترض انه وهو في غرفة العناية الفائقة منذ اشهر طويلة وصلته نتيجة التصويت وقرار اكراد الاقليم ورفع شارة النصر وهو فوق سريره امام هذا الانجاز الكبير الذي ساهم في صنعه .
ربما الان نفهم تصلب مسعود البارزاني في موقفه من عدم التراجع عن قرار الاستفتاء .اراد ان يكون اخر هدية يقدمها لخصمه السياسي وشريكه الاول في بناء اقليم كردستان وهو على فراش الموت رغم معرفته ان الطالباني ناور كعادته وظهر بين المؤيد والرافض للاستفتاء حتى يستفيد حزبه من كل شاردة وواردة .
اذا ما كانت اسرة البارزاني تستند الى تاريخ الاسرة العريق في النضال من اجل حقوق الاكراد فالعم جلال استند الى شخصيته القوية وعلاقاته الواسعة وخبرته وثقافته في الدفاع عن القضية لعقود .
القيادي الكردي الراحل جلال الطالباني مؤسس حزب الاتحاد الوطني الكردستاني كان بمثابة الضفة الثانية في مجرى نهر القضية الكردية ببعدها العراقي . لعب دورا اساسيا في فتح الطريق امام الحكم الذاتي لاكراد العراق ثم اسس لنشوء اقليم كردستان بعد الغزو الاميركي للعراق عام 2003 في اطار تفاهمات الدستور العراقي الجديد عام 2005 ودستور اقليم كردستان عام 2007 التي منحت اكراد البلاد مساحات واسعة من المشاركة السياسية والاعتراف الاقليمي والدولي رغم اعتراضنا الدائم على الاجحاف السياسي والاجتماعي الذي تسببت به هذه الدساتير بحق بقية شرائح المجتمع العراقي من سنة واقليات .
الطالباني كان رمزا من رموز البراغماتية السياسية في العالم . نجح في الجلوس على مقعد الرئاسة في العراق " لحماية التوازنات " ثم ساهم في بناء نظام التحاصص الذي اعطى اكراد الشمال اكثر مما يريدون . كان كردي القومية لكنه كان ايضا اميركي الميول وتركي الهوى وعربي الانتماء وروسي المبايعة .
كان كرديا حتى العظم وفلسطينيا حتى النخاع ويساريا حتى الرعشة . اغضب الكثيرين بسبب مناوراته السياسية الناجحة ، ونجح في الرقص فوق التوازنات العراقية والاقليمية . جلس فوق السجادة الايرانية مرة ولبس العباءة العربية مرة اخرى وتجول بجواز سفر تركي مرة ثالثة . رضي بالبندقية الاميركية لكنه لجا الى الروس للحصول على ذخيرتها في اكثر الاحيان .
لم يكن فقط سياسيا محنكا بل كان دبلوماسيا ناجحا على الطريقة الانكليزية ومفاوضا محترفا بالوجه الاسكندنافي ومتحدثا لبقا لا تفارقه للحظة روح النكتة المصرية وواحدا من رموز اسلوب السخرية الموجه على الطريقة البولشفية . " زوجتي غالبا ما تقول لي نحن إذا متنا فسوف تدفننا البلدية لأننا سنموت وليس معنا أية فلوس، فقلت لها إن شعبنا سوف يكرمنا وقتذاك " .
تواصل مع خصومه عند الضرورة وقاطعهم عند اللزوم . قاد العراق في اصعب ايام الدولة ونجح في البقاء على مقعد الرئاسة حتى اصابه المرض . كان صمام امان امتصاص التوتر وحارس الخيط الرفيع في العلاقات السياسية العراقية وجسر التواصل بين دول الجوار العراقي حتى ولو كلفه ذلك ان ينقل مكان البندقية في الكتف من تركي الى عربي الى ايراني للدفاع عن مصلحة ابناء جلدته الاكراد .
بدأ حياته الحزبية والسياسية على مقاعد مدرسة البارزاني لكنه سرعان ما اختلف معه وانشق مؤسسا الحزب الديمقراطي الكردستاني ومدرسته المستقلة الخاصة به . شعاره الاول " لا صداقة دائمة ولا عداوة دائمة " وهو طبقه في علاقته مع مسعود البارزاني وصدام حسين وعبد الله اوجلان وشيعة العراق وسنتهم وطهران وانقرة وموسكو والكثير من العواصم الغربية . ولولا ذلك لما تمكن من الوقوف على قدميه حتى عندما كان ممددا على سريره في غرفة العناية الفائقة منذ اعوام .
قال إنه عندما قبل الرئاسة قرر خلع الزي الكردي ووضع العباءة العراقية " لأنني سأكون رئيسا لكل العراقيين " . هو نجح اذا في اقناع البارزاني برئاسة الاقليم مقابل ان يتراس هو الدولة العراقية وربما هذا هو خطاه الوحيد الذي ارتكبه في حياته السياسية . لو حدث العكس مثلا هل كانت الامور تصل بالعراق والاقليم الى ما هي عليه اليوم ؟ فهو يعرف كيف يتعامل مع الامور مفضلا لغة الحوار على بقية الوسائل الاخرى للتعاطي مع الوضع العراقي بشكل عام والوضع الكردي الراهن بشكل خاص .
نصيحته الدائمة للقيادات التركية والكردية انه من مصلحة تركيا انهاء ملف الازمة الكردية سلميا لكن يبدو ان البعض خذله في العراق نفسه .
طالباني كان يريد أن يدخل التاريخ من باب يوفر له المزيد من القوة السياسية والشرعية القانونية لوضع اقليم الشمال أولا ويساعده على تحسن علاقاته المتردية مع انقرة وطهران ثانيا ويخرج بلباس المنتصر الأكبر في الملف الكردي ببعده الاقليمي ثالثا وتكريس نفسه كزعيم كردي نجح في ادخال مسار سياسي جديد على الملف الكردي بشقيه التركي والايراني فلم يحالفه الحظ .
مشروع اخر لم ينجزه في حياته وحتما سينوب احدهم عنه في ذلك " إصدار كتاب أجمع فيه كل النكات التي قيلت عن طالباني " .